حال السابق بالخيرات - الجزء الثانى
فالسائرون إلى الله قسمان:
سائر قد ركبته نفسه فهو حاملها، يعاقبها وتعاقبه، ويجرها وتهرب منه، ويخطو بها خطوة أمامه، فتجذبه خطوتين إلى ورائه، فهو معها في جهد، وهي معه كذلك.. فمتى يصل مثل هذا؟
وسائر قد ركب نفسه، وملك عنانها، فهو يسوقها كيف يشاء؟ وأين شاء؟ ومتى شاء؟.
لا تلتوي عليه ولا تنجذب، ولا تهرب منه، بل هي معه كالأسير الضعيف، في يد مالكه وآسره، فهي منقادة معه حيث قادها، تسير به وهو ساكن راكب على ظهرها.. فما أسرع وصول هذا، وشتان بين المسافِرَين، ومن شأن هؤلاء القوم أن تنسلخ نفوسهم من التدبير والاختيار الذي يخالف تدبيره تعالى واختياره.
بل قد سلموا إليه سبحانه التدبير كله، فلا يزاحم تدبيرهم تدبيره، ولا اختيارهم اختياره، لتيقنهم أنه الملك الحق، القاهر القابض على نواصي الخلق، المتولي تدبير أمر العالم كله، وتيقنهم مع ذلك أنه الحكيم في أفعاله، الذي لا تخرج أفعاله عن الحكمة والمصلحة والرحمة.
{مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: 56].
فلم يُدخلوا أنفسهم معه في تدبيره لملكه وتصريفه أمور عباده، بِلَوْ كان كذا كان كذا، ولا بعسى ولعل، ولا بليت وأتمنى.
بل ربهم أعظم وأجل في قلوبهم من أن يعترضوا عليه أو يتسخطوا تدبيره، أو يتمنوا سواه، وهم أعلم به، وأعرف بأسمائه وصفاته من أن يتهموه في تدبيره، أو يظنوا به الإخلال بمقتضى حكمته وعدله.
بل هذا العبد ناظر بعين قلبه إلى بارئ المخلوقات وفاطرها، ناظر إلى إتقان صنعه، مشاهد لحكمته فيه، وإن لم يخرج ذلك على مكاييل عقول البشر، وعوائدهم ومألوفاتهم.
وعيب المخلوقات وتنقصها بمنزلة العيب لصانعها وخالقها؛ لأنها صُنْعه وأَثَر حكمته، وهو سبحانه أحسن كل شيء خلقه، وهو أحسن الخالقين، وأحكم الحاكمين، وله في كل شيء حكمة.
{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)} [المؤمنون: 14].
فالمؤمن لا يعيب إلا ما عابه الله، ولا يذم إلا ما ذمه الله، وإذا سبق إلى قلبه ولسانه عيب ما لم يعبه الله، وذم ما لم يذمه الله تاب إلى الله منه، كما يتوب صاحب الذنب من ذنبه.
{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)} [النساء: 110].
فالعبد يستحي من ربه أن يكون في داره، وهو يعيب آلات تلك الدار وما فيها، فيقول: لوكان كذا مكان كذا لكان خيراً، أو يشاهد الملك الحق يولي هذا ويعزل هذا، ويعطي هذا ويَحْرِم هذا، فيقول: لو وُلِّي هذا المكان فلان لكان خيراً ولو عُزل هذا المتولي لكان أولى، ولو عوفي هذا، ولو أغنى هذا... وهكذا.
فكيف يكون مقت الملك لهذا المعترض، وإخراجه من قربه؟
فوا عجباً.. كيف ينازع العبد ربه منازعة جاهل عاجز ضعيف، ليس له من الأمر شيء؟. وهو مع ذلك ينازع الله ربوبيته وحكمته وتدبيره، ولا يرضى بما رضي الله به، ولا يسكن عند مجاري أقداره، بل هو عبد ضعيف فقير مسكين جاهل ظالم في مجموع حالاته فيرى نفسه غنياً، ويرى نفسه عارفاً محسناً.
فما أجهله بنفسه.. وربه.. وما أتركه لحقه.. وما أشد إضاعته لحظه.
ولو أحضر العبد رشده لرأى ناصيته ونواصي الخلق كلهم بيد الله سبحانه، يرفعها ويحفضها كيف يشاء؟ وقلوبهم بيده يقلبها كيفما يشاء؟ يقيم منها ما يشاء ويزيغ منها ما يشاء، لكمال علمه ورحمته وحكمته.
ويرى نفسه عبداً لربه، تُقَلِّبه وتُصرِّفه يد القدرة، مستسلم لله، ينظر بقلبه إلى مولاه الذي حرَّكه، مستعين به في أن يوفقه إلى ما يحبه ويرضاه، عينه في كل لحظة شاخصة إلى حق مولاه المتوجه عليه لربه يؤديه في وقته على أكمل أحواله.
فهؤلاء إذا وردت عليهم أقداره التي تصيبهم بغير اختيارهم، قابلوها بمقتضاها من العبودية، وهم فيها على ثلاث مراتب:
إحداهما: الرضى عنه فيها، والمزيد من حبه والشوق إليه، وهذا ناشيء من مشاهدتهم للطفه فيهم، وبره وإحسانه العاجل والآجل، ومن مشاهدتهم حكمته فيها، ونصبها سبباً لمصالحهم.
الثانية: شكره عليها كشكره على النعم، وهذا فوق الرضا عنه بها، فهاتان مرتبتان لأهل هذا الشأن.
الثالثة: للمقتصدين، وهي مرتبة الصبر التي إذا نزل منها نزل إلى اليأس والجزع، الذي لا يفيد إلا فوات الأجر وتضاعف المصيبة.
ولما كانت الحياة الدائمة مبنية على الحياة الفانية، بما فيها من عمل فمن آمن وعمل صالحاً فله الجنة، ومن كان بضد ذلك فله النار، أمرنا الله عزَّ وجلَّ بالتجارة الرابحة فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)} [الصف 10 - 13]
وقد استجاب أكثر الخلق للشيطان، فأشغلهم وخدعهم بالتجارة الخاسرة عن التجارة الرابحة التي أرسل الله بها الأنبياء، وكفى بذلك عقوبة {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)} [سبأ: 20].
والهدف والغاية من حياة الإنسان ثلاثة أمور وهي:
عبادة الله عز وجل.. والدعوة إلى الله.. والخلافة في الأرض.
يشتغل العبد بذلك كل وقته، ويجعل جزءاً يسيراً لكسب المعاش بعد معرفة أحكام العمل، كما قال سبحانه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)}... [الجمعة: 10].
والشهوات مطلقة غير محدودة، وطلب الشهوات من الإنسان مطلق أيضاً غير محدود، فما يكاد يفرغ من شهوته إلا وتشتاق نفسه إلى شهوة أخرى.
ولو اجتمع الإنس والجن لتكميل شهوة إنسان واحد ما قدروا، وإنما تكميل الشهوات بيد الله عزَّ وجلَّ.
فالإنسان تصوره ضعيف، فلا يستطيع أن يكمل شهواته حسب معرفته، إنما يكملها ربه الذي خلقه، وعلم ما ينفعه وما يضره، فأعطاه في الدنيا منها القليل الذي يصلحه، وفي الآخرة يكملها الله لأوليائه في الجنة بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
فالإنسان في هذه الحياة، بسبب جهله، وقصور معرفته يريد تكميل شهواته والاستمتاع بها الآن.
فيريد الآن أن يأكل أحسن شيء.. ويريد أن يشرب أحسن شيء.. ويريد أن يسكن أحسن شيء.. ويريد أن يلبس أحسن شيء.. ويريد أن يركب أحسن شيء حسب معرفته.
ولكن الله الذي خلقه أعلم منه، وحكمة الله أن يأخذ من الشهوات بقدر حاجته، ويصوم عن تكميل الشهوات إلى غروب شمس حياته، وبعد ذلك له في الجنة النعيم المقيم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)} [السجدة: 17].
وأوامر الله عزَّ وجلَّ ليس لها حد.. وشهوات الإنسان ليس لها حد.. فمن قدم أوامر الله وأكملها.. وضحى بشهواته من أجلها.. أكرمه الله بالجنة وأكمل شهواته فيها.. ومن أكمل محبوبات الله في الدنيا من الإيمان والأعمال الصالحة والأخلاق الحسنة.. أكمل الله له محبوباته في الآخرة.
فأين من ينافس في أعمال الآخرة؟ وأين من يسابق في الخيرات، ليحصل على أعلى الدرجات في الجنات؟
إننا نرى جهد الدنيا مهماً جداً، ولذلك وظائف الدنيا عليها إقبال مع أن أجورها قليلة، ولا تحقق إلا متعة قليلة وهمية.
أما وظائف الدين فلا إقبال عليها بسبب ضعف الإيمان، مع أن أجورها عظيمة، وتحقق متعة وسعادة في الدنيا والآخرة.
وعادة الملك أن يعطي الجائزة الكبيرة، والهدية الكبيرة بنفسه، أما الجائزة الصغيرة، والهدية الصغيرة، فيأمر أحد الخدم أن يعطيها من يريد.
وهكذا أسباب الدنيا من الأموال والأشياء والمناصب، كلها صغيرة، فيعطيها الله عن طريق الأسباب.
أما الدين والجنة وما فيها من النعيم، فهو كسب عظيم وكبير، يعطيه الله من علم أنه يستحق ذلك في نفسه.
فالله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولكنه لا يعطي الدين إلا لمن يحب.
والله عز وجل ابتلى كل إنسان بطريقين:
طريق الإيمان والأعمال الصالحة، وطريق الأموال والشهوات، والإنسان الفائز من يقضي حياته بطريق الإيمان والأعمال الصالحة، ويأخذ من الأموال والشهوات بقدر الحاجة، والخاسر بضد ذلك.
واليهود والمشركون أحرص الناس على الحياة، كما قال سبحانه عنهم: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)} [البقرة: 96].
ولماذا يحرصون على الحياة؟
لأنهم يعلمون أن ما قدموه من عمل لا يجعل لهم نصيباً في الآخرة، وعندئذ يكونون قد خسروا الدنيا بالموت الذي طلبوه، وخسروا الآخرة بالعمل السيئ الذي قدموه.
فهم لا يحبون الموت، بل يحرصون على الحياة أياً كانت، ولا يهم أن تكون حياة كريمة، ولا حياة مميزة على الإطلاق.
إنهم يريدون أي حياة... حياة حشرات، أو حياة بهائم... أو حياة سباع... أو حياة عقارب... أو حياة شياطين.
وأعلى أنواع الحياة حياة الأنبياء والمرسلين، ثم من سار على هداهم من الصديقين والشهداء والصالحين، الذين حياتهم خالصة لامتثال أوامر الله وطاعته وعبادته: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)} [النساء 69 - 70].
والله سبحانه إذا رقَّى عبده بالتدريج نوَّر باطنه وعقله بالعلم، فرأى أنه لا خالق سواه، ولا يملك الضر والنفع والعطاء والمنع غيره، وأنه لا يستحق أن يعبد سواه، وكل معبود سواه فباطل.
ثم إذا رقاه الحق سبحانه درجة أخرى فوق هذه أشهده عود المفعولات إلى أفعاله سبحانه، وعود أفعاله إلى أسمائه وصفاته، وقيام صفاته بذاته، فيضمحل شهود غيره من قلبه.
ثم إذا رقاه درجة أخرى أشهده قيام العوالم به وحده بإقامته لها، وإمساكه لها. فإنه سبحانه يمسك السموات والأرض أن تزولا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، ويمسك البحار أن تغيض أو تفيض على العالم، ويمسك الطير في الهواء صافات ويقبضن.
ويمسك القلوب الموقنه أن تزيغ عن الإيمان، ويمسك أرواح الحيوان أن تفارقه إلى الأجل المحدود، ويمسك على الموجودات وجودها، ولولا ذلك لاضمحلت وتلاشت.
والكل قائم بأفعاله وصفاته التي هي من لوازم ذاته، فهو سبحانه مستغن عن كل ما سواه، وما سواه فقير إليه بالذات.
فهذا العبد يشهد ربه منفرداً بالقيومية والتدبير، والخلق والرزق، والعطاء والمنع، والنفع والضر، ويرى جميع المخلوقات محل جريان أحكام الرب عليها، لا يملك شيئ منها لنفسه نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
ومع هذا فهو ساع في طلب الوصول إليه، بالواجبات والنوافل حسب أمره وشرعه، ويشهد ألوهية الله فيتعلق به وحده دون سواه، ويحبه وينيب إليه، ويتوكل عليه، ويفرده بالمحبة والخوف، والرجاء والتعظيم والإجلال.
فهذه أعلى مقامات المؤمنين، وأحسن درجات المحسنين، قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)} [الأنفال 2 - 4].
ولهؤلاء السابقين في الجنه ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} [الواقعة 10 - 26].
وهذا السابق بالخيرات ما سبق إليها إلا بتوفيق الله تعالى ومعونته، فينبغي له أن يشتغل بشكر الله تعالى على ما أنعم عليه به، كما قال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)} [فاطر: 32].
فالظالم لنفسه.. والمقتصد.. والسابق بالخيرات.. هؤلاء الذين ورثوا الكتاب، وهم الذين اصطفاهم الله لوراثة الكتاب.
وبعرض متاجر الأقسام الثلاثة يتبين للعبد من أي التجار هو؟
أما جزاء الذين أورثهم الله كتابه فهو:
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33)} [فاطر: 33].
وهم متفاوتون في هذا النعيم حسب أعمالهم، ودرجاتهم حسب قوة إيمانهم، وحسن أعمالهم وتنوعها.
فإذا تم نعيمهم، وكملت لذاتهم وسرورهم حمدوا الله على كمال النعيم:
{وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)} [فاطر: 34].
فلا حزن يعرض لهم بسبب نقص في جمالهم، ولا في طعامهم، ولا في شرابهم، ولا في لذاتهم، ولا في أجسادهم، ولا في دوام لبثهم، فهم في نعيم ما يرون عليه مزيداً.
فله الحمد حيث غفر لنا الزلات، وقَبِل منا الحسنات وضاعفها، وأعطانا من فضله، ما لم تبلغه أعمالنا ولا أمانينا.
وأوصلنا إلى دار المقامة التي يرغب الإنسان في الإقامة فيها، لدوامها وكثرة خيراتها، وتوالي مسراتها، وزوال كدورتها.
وذلك كله بفضله وكرمه لا بأعمالنا، فلولا فضله لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من كمال النعيم، حيث لا نصب ولا تعب.
{الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)} [فاطر: 35].
إن عظيم الهمة يستخف بالمرتبة السفلى من معالي الأمور، ولا تهدأ نفسه إلا حين يضع نفسه في أسمى منزلة، وأقصى غاية، في كل عمل محمود.
والناس أصناف:
فمنهم من يشعر بأن فيه الكفاية لعظائم الأمور، ويجعل هذه العظائم همته، فهذا يسمى عظيم الهمة.
ومنهم من فيه الكفاية لعظائم الأمور ولكنه يبخس نفسه، فيضع همه في أدنى الأمور وصغائرها، فهذا يسمى صغير الهمة.
ومنهم المتواضع الذي لا يكفي لعظائم الأمور، ويشعر أنه لا يستطيعها، وأنه لم يخلق لمثلها، فيجعل همته وسعيه على قدر استعداده.
ومنهم من لا يكفي للعظائم، ولكنه يتظاهر بأنه قوي عليها، وهذا يسمى فخوراً، والله لا يحب كل مختال فخور.
والقرآن الكريم يملأ النفوس بعظم الهمة والمسابقة إلى الخيرات، وهذا العظم هو الذي قذف بأولياء الله ذات اليمين وذات الشمال، فأتوا على قلوب مملوءة بالكفر والظلم، وجاهدوها حتى امتلأت بالإيمان والعدل.
وأتوا على عروش كانت ظالمة فنسفوها، ورفعوا فيها لواء العدل والأمن، وأتوا على عقول كانت ضالة ففجروا فيها أنهار العلوم تفجيراً.
فلله ما أعظم هذه الهمم، وما أشرف هذه النفوس الأبية.
ومجالات وأقسام علو الهمة كثيرة، يجمعها ست صفات هي:
طلب العلم... وحسن العبادة.. وحسن الاستقامة.. والبحث عن الحق... والدعوة إلى الله.. والجهاد في سبيل الله.
فعلو الهمة في طلب العلم يتمثل في الغيرة على الوقت أن ينفَقَ في غير فائدة، وحرص لايشفي غليله إلا بأكواب طافحة من كل علم، وغوص في البحث عن نفائس العلوم، وألسنة مهذبة لا تقع في لغو ولا مهاترة؛ لأنها مشغولة بالحق الذي أشغلها عن الباطل.
إن معالي الأمور وعزة المسالك محفوفة بالمكاره، والعلم أرفع مقام تطمح إليه الهمم، وأشرف غاية تتسابق إليها الهمم.
أما علو الهمة في العبادة والاستقامة فلها أقوام فقهوا عن الله أمره، وعرفوا حقيقة الدنيا، فاستوحشوا من فتنها، وتجافت جنوبهم عن مضاجعها، وارتفعت همتهم عن سفاسفها، وعرفوا الآخرة، فتعلقت قلوبهم بها، فلا تراهم إلا قوامين صوامين، ذاكرين شاكرين، مسبحين مستغفرين.
فما أعلى همتهم في التوبة والاستقامة، وما أقوى عزيمتهم في العبادة والإخبات، والذكر والدعاء.
وأما البحث عن الحق فما أكثر المهتدين الذين ارتفعت همتهم في البحث عن الدين الحق، وما فيه من أحكام، فَمَنَّ الله عليهم وأعطاهم ما سألوا، وحقق لهم ما أرادوا، كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)}... [العنكبوت: 69].
وأما علو الهمة في الدعوة إلى الله، فمن أعظم ما يهتم به الداعية هداية قومه، وبلوغ الجهد في النصح لهم، والصبر على مشاق الدعوة، حتى تبلغ الغاية التي يريد الله أن تبلغها.
وقد كان الرسل الكرام على رأس قائمة عالي الهمة في هذا المجال، وكان أولو العزم منهم في الذؤابة.. بذلاً.. وصبراً.. وتضحية، وكان سيدنا محمد (في ذلك الغاية العظمى، والمثل الأعلى الذي ينبغي أن يحذو حذوه كل داعية إلى الله عزَّ وجل، إذ لم يكن همه هداية قومه أو العرب فحسب، بل العالم كافة، وخاطب ملوك العالم ورؤساءه ليدخلوا في دين الإسلام.
والجهاد في سبيل الله يحتاج إلى رجال عالي الهمة، وقد ضرب رسول الله (المثل الأعلى في هذا المجال فلم يكن أحد في وقت القتال أقرب إلى العدو منه، وكان أصحابه رضي الله عنهم مثلاً في الشجاعة والإقدام اقتداء به.
فما أحوج المسلمين اليوم إلى هذه الروح الوثابة، والهمة العالية؛ لتجاهد ضد أعداء الله، وأعداء الدين الحق، وتطهر الأرض من دَنَس أعداء الله ورسوله ودينه، وتنشر الفضيلة والحق في العالم.
مختارات