أن تملأَ الأرضَ عِلماً !
بسم الله الرحمن الرحيم
هناك عباراتٌ رائقة تصافح عينيك على ضفاف بعض كتبِ التراجم، وتظل هذه العبارات مطويةً في زوايا النسيان موشكةً على الاندثار والتلاشي، ثم تقوم شواهد تشبهها من الواقع فتنبعث تلك العبارات من مرقدها وتراها تومض وتلتمع أمام عينيك التِماعا كأنما كنتَ قرأتَها الساعة!
من ذلك أذكر أني قرأت عبارةً لأبي حيان الأندلسي منقولةً عنه في بعضِ كتبِ التراجم، يقول فيها أبو حيان عن العالم النحوي ابنِ أبي الربيع: (وابن أبي الربيع ملأ الأرض نحوا!) أي أنه ملأ الأرض بعلمِه! استقرت هذه العبارة البهيَّة في زاوية من زوايا النسيان في نفسي، ثم ظلَّت تلوِّح لي بكلتا ذراعَيها كلما رأيتُ أنشطة الدكتور سليمان العيوني -وفقه الله- في نشر علوم اللغة، فإنه ملأ الأرض اليومَ نحوا، واجتهد بكل دَأَبٍ وتفانٍ في تذليل علمِهِ للناسِ وفي جَعْلِه حقَّا مُشاعا للواردِينَ حياضَ اللغة!
وهذا التعبير الرائق (أن تملأ الأرض علما) جاء أصله في بعض الآثار فعَن عبدالله بن مسعود مرفوعا أنه قال: (لا تسبُّوا قريشا فإن عالمَها يملأُ طباقَ الأرض علما). ولكن ضَعَّفَ الحفاظُ طرقَ هذا الخبر والله أعلم، لكن هذا المعنى حين تقرؤه فإنه يلقي بظلاله -رَغما عنك- على واقع الحركة العلمية اليوم، فأنت ترى مِنَ العلماء وطلبة العلم من تظلُّ معارفه منحسرةً لا تكاد بركتها تُجاوِزُ ظلَّه أو ظلَّ مثلَيه! وترى مِنَ العلماء وطلبةِ العلم من يوفقه الله للاجتهاد والبذل ثم يمنحه أسبابَ البركة فيمتد رواق عِلمِه لتدخل فيه أمم لا تحصى من الناس.
ولهذا التعبير الجميل (أن تملأ الأرض علما) نظائرُ مقاربةٌ لمعناه في بعضِ كتب التراجم، ومن ذلك تعبير (إشغالُ الناسِ بالعِلم) فيقال عن عالم من العلماء بأنه أشغلَ أهل عصره بالفِقه، أو أشغل الناس بالعلم، ما أبهى هذا الوصف وأجمله!
وأولُ من رأيتُه يستعمله هو ابنُ الملقِّن فإنه قال في أثناء ترجمته لصفي الدين الهندي: (درَّسَ بالأتابكية والظاهرية الجوانية، وأشغل الناس بالعِلمِ إلى أن توفِّي..).
ثم رأيتُ ابنَ حجر وابن قاضي شهبة يستعملانِه في بعضِ ما كتباه في التراجم، فقد قال ابن حجر في أثناء ترجمة وجيه الدين بن الجمَّال: (تفقَّه وقطن مكة، وأشغل الناس بها في الفقه!). وقال ابن قاضي شهبة عن فرج بن محمد بن أحمد بن أبي الفرج (العلامة الفقيه، الأصولي... أشغل الناس بالعلم، وأفاد الطلبة مدة طويلة).
وممَّن كان يستعمله ويورده في أكثرَ مِنْ مَوضعٍ في كتابِهِ ابنُ العماد الحنبلي، فقال –على سبيل المثال- عن نجمِ الدِّين حُسَين بن علي الأسواني الشافعي: (برع، وحدّث، وأشغل الناس بالعلم مدة كثيرة). وقال عن فخر الدّين عثمان الطّائي الحلبي الشّافعي: (درّس، وأفتى، وأشغل الناس بالعلم بحلب وانتُفع به).
فهذا الاصطلاح المهيب (إشغال الناس بالعلم) لا يملك المرء إذا قرأه إلا أن يشعر بجلالة هذه الموصوف وسموقِ روحِه ووضوحِ طريقِه، فليس هو من أولئك الذين جعلوا صدورَهم أقفالا لعلومِهم، وكنزوا معارفَهم كما يكنِزُ الشحيحُ الذهبَ والفِضَّة، وليس هو أيضا مِن الذين كان لهم مشاركات في نشر للعلم. لا ليس هذا فحسب! إنما المراد معنى لا تفي به إلا مفردة الإشغال بكل ما تضمنته من دَأَبٍ وإِصرار، وبكل ما تحتمله من كونِهِ جَعَل العلم قريبا تناله أيدي العامَّة ورماحُ أفهامهم، وأنه زَرَعَ في نفوسهم بذورَ الاهتمامِ بالعلم والسؤالِ عنه، فهو مشتغلٌ ليلا ونهارا في بثِّه ونشره بكل سبيلٍ يمكنه، مشمِّرٌ عن ساق الدأب والجد قد أشغل الناس بالعلم وذلَّلـه للمُعتَفينَ والطالِبين! فيَا لـجـــمالِ وجَلالِ مالئِي الدنيا وشاغِلِي الناس بالعُلوم النافعة!
مختارات