حال السابق بالخيرات
حال السابق بالخيرات
قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)} [الواقعة: 10 - 14].
وقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون: 59 - 61].
وقال الله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)} [البقرة: 148].
السابقون في الدنيا إلى الإيمان والأعمال والخيرات هم السابقون في الآخرة لدخول الجنات، وهم المقربون عند الله في جنات النعيم في أعلى عليين.
وهم الذين يعطون من أنفسهم مما أمروا به من كل ما يقدرون عليه من صلاة وزكاة، وصيام وحج، وطاعات وأعمال صالحة.
ومع هذا قلوبهم وجلة وخائفة عند عرض أعمالها على ربها، والوقوف بين يديه، خشية أن تكون أعمالهم غير منجية من عذاب الله، لكمال علمهم بربهم، وما يستحقه من أنواع العبادات.
فهؤلاء همهم ما يقربهم إلى الله، وإرادتهم مصروفة فيما ينجي من عذاب الله، فكل خير سمعوا به، أوسنحت الفرصة إليه انتهزوه وبادروه، يسارعون إلى كل خير، ويسابقون في كل عمل صالح، وينافسون في كل ما يقربهم إلى الله: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)} [المؤمنون: 61].
والأمر باستباق الخيرات أمر زائد على الأمر بفعل الخيرات، فإن الاستباق إليها يتضمن فعلها وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الوجوه والأحوال، والمبادرة إليها في أول وقتها.
والخيرات تشمل جميع الطاعات والفرائض والنوافل من صلاة وصيام، وزكاة وصدقات، وحج وعمرة، وجهاد، ونفع خاص وعام.
والسابقون هم أعلى الخلق درجات، وأعلاهم مقامات.
والسابق بالخيرات همه في تحصيل الأرباح، وشد أحمال التجارات، لعلمه بمقدار الربح الحاصل، فيرى خسراناً أن يدخر شيئاً مما بيده ولا يتجر به، فيجد ربحه يوم يغتبط التجار بأرباح تجارتهم، ويرى خسراناً بيناً أن يمر عليه وقت في غير متجر.
والسابقون بالخيرات نوعان: أبرار.. ومقربون.
وهؤلاء الأصناف الثلاثة هم أهل اليمين وهم:
المقتصدون.. والأبرار.. والمقربون.
وأما الظالم لنفسه فليس من أصحاب اليمين عند الإطلاق، وإن كان مآله إلى أصحاب اليمين، كما أنه لا يسمى مؤمناً عند الإطلاق، وإن كان مصيره ومآله مصير المؤمنين بعد أخذ الحق منه.
والسابقون المقربون، السابقون بالخيرات، هم أفضل الخلق وأزكاهم، ونبأهم عجيب، ونحن نستغفر الله من وصف حالهم، وعدم الاتصاف به، ولكن محبة القوم تحمل على تعرف منزلتهم والعلم بها، عسى أن تشمر النفس للاقتداء بهم، والاتصاف بصفاتهم.
فالسابقون المقربون جملة أمرهم: أنهم قوم امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وغمرت قلوبهم محبة الله وخشيته، ومراقبته وإجلاله.
فَسَرَت المحبة في قلوبهم وأبدانهم، فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب، وقد أنساهم حبه ذكر غيره، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه.
قد استغنوا بحبه عن حب ما سواه، وبذكره عن ذكر ما سواه، وبخوفه ورجائه عن خوف ورجاء من سواه.
وصارت رغبتهم إليه.. وتوكلهم عليه.. ورهبتهم منه... وإنابتهم إليه.. وسكونهم إليه.. وانكسارهم بين يديه.. فلم يتعلقوا بشيء من ذلك بغيره.
فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه، واجتمع همه عليه، متذكراً صفاته العلا، وأسمائه الحسنى، مشاهداً له في أسمائه وصفاته، قد انصبغ قلبه بمعرفته ومحبته.
فبات جسمه على فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبه قد آوى إلى مولاه وحبيبه فآواه، وأسجده بين يديه خاضعاً خاشعاً، ذليلاً منكسراً من كل جهاته، فيا لها من سجدة ما أشرفها من سجدة.
وشتان بين قلب يبيت عند ربه قد قطع في سفره إليه بيداء الأكوان، ولم يقف عند رسم، ولا سكن إلى علم، حتى دخل على ربه، فشاهد عز سلطانه، وعظمة جلاله، وعلو شأنه، وبهاء كماله، وهو مستو على عرشه.
يدبر أمر عباده، وتصعد إليه شؤون العباد، وتُعرض عليه حوائجهم وأعمالهم، فيأمر فيها بما يشاء، فينزل الأمر من عنده نافذاً كما أمر.
فيشاهد الملك الحق قيوماً بنفسه، مقيماً لكل ما سواه، غنياً عن كل ما سواه، وكل من سواه فقير إليه {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)} [الرحمن: 29].
ويرى ربه يغفر الذنوب، ويفرج الكروب، ويرحم المسترحمين، ويفك عانياً، وينصر ضعيفاً، ويجبر كسيراً، ويغني فقيراً، ويُميت ويُّحيي، ويُسعد ويُشقي، ويضل ويهدي، وينعم على قوم، ويسلب نعمته عن آخرين، ويعز أقواماً، ويذل آخرين.
ويشاهد الملك الرزاق يقسم الأرزاق ويجزل العطايا، ويمن بفضله على من يشاء من عباده، بيده اليمنى، وبيده الأخرى الميزان، يخفض به من يشاء، ويرفع به من يشاء، عدلاً منه وحكمة.
ويشهده وحده القيوم بأمر السموات والأرض ومن فيهن، ليس له بواب فيستأذن، ولا حاجب ولا وزير ولا ظهير فيستعان به، ولا ولي من دونه فيشفع به إليه، ولا نائب عنه فيعرِّفه حوائج عباده، ولا معين له فيعاونه على قضائها.
أحاط سبحانه بالعباد وحوائجهم، ووسعها قدرة ورحمة وعلماً، فلا تزيده كثرة الحاجات إلا جوداً وكرماً، ولا يشغله منها شأن عن شأن.
ولا تغلطه سبحانه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين.
«يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلا مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أهْدِكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلا مَنْ أطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي! كُلُّكُمْ عَارٍ إِلا مَنْ كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أكْسُكُمْ.
يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أغْفِرْ لَكُمْ، يَا عِبَادِي! إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا، عَلَى أتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا.
يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي! لَوْ أنَّ أوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَألُونِي، فَأعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْألَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أدْخِلَ الْبَحْرَ.
يَا عِبَادِي! إِنَّمَا هِيَ أعْمَالُكُمْ أحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ» أخرجه مسلم (1).
فهو سبحانه الملك الغني الكريم، عليم بكل شيء، محيط بكل شيء، قدير على كل شيء، يفعل ما يشاء؛ لأراد لقضائه، ولا معقب لحكمه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82].
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: أَُْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ، وَقَالَ: يَدُ الله مَلأى لا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَقَالَ: أرَأيْتُمْ مَا أنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأرْضَ فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَبِيَدِهِ الْمِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ» متفق عليه (1).
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» أخرجه مسلم (2).
واذا صارت أسماء ربه، وصفات ربه، مشهدا لقلبه، أَنْسَتْه ذكر غيره، وشغلته عن حب من سواه، وجذبت دواعي قلبه إلى حبه تعالى بكل جزء من أجزاء قلبه وروحه وجسمه.
فحينئذ يكون الرب سبحانه سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبه يسمع وبه يبصر، وبه يبطش، ربه يمشي.
قال رسول الله (: «إِنَّ الله قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَألَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وأنَا أكْرَهُ مَسَاءَتَهُ» أخرجه البخاري (3).
فيبقى قلب العبد الذي هذا شأنه عرشاً لمعرفة محبوبه ومحبته، ومعرفة عظمته وجلاله وكبريائه، وناهيك بقلب هذا شأنه، فيا له من قلب من ربه ما أدناه، ومن قربه ما أحظاه، فهو ينزه قلبه أن يساكن سواه، أو يطمئن بغير مولاه.
فهؤلاء قلوبهم قد قطعت الأكوان، وسجدت تحت العرش، وأبدانهم في فرشهم، تحن وتئن إلى الملأ الأعلى حنين الطيور إلى أوكارها.
فإذا استيقظ هذا القلب من أوكاره، صعد إلى الله بهمته وحبه، مشتاقاً إليه، طالباً له، محتاجاً إليه، عاكفاً عليه.
فحاله كحال المحب الذي غاب عنه محبوبه الذي لا غنى له عنه، ولا بدَّ له منه، فهو آخر خطراته عند منامه، وأولها عند استيقاظه، فإذا استيقظ أحدهم وقد بدر إلى قلبه هذا الشأن، فأول ما يجري على لسانه ذكر محبوبه، والتوجه إليه، واستعطافه، والتملق بين يديه، والاستعانة به أن لا يخلي بينه وبين نفسه، وأن لا يكله إليها، فيكله إلى ضعة وعجز، وذنب وخطيئة.
بل يكلؤه كلاءة الوليد الذي لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاَ، ولا موتاَ ولا حياة ولا نشوراً.
فإذا انتبه من نومه قال: «لا إلَهَ إلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لله، وَسُبْحَانَ الله، وَلا إلَهَ إلا الله، والله أكْبَرُ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلا بالله» أخرجه البخاري (1).
فأول ما يبدأ به إذا قام من النوم أن يقول: «الْحَمْدُ لله الَّذِي أحْيَانَا بَعْدَ مَا أمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ» متفق عليه (2).
يقولها متدبراً لمعناها من ذكر نعمة الله عليه بأن أحياه بعد نومه الذي هو أخو الموت، وأعاده إلى حاله سوياً سليماً محفوظاً مما لا يعلمه، ولا يخطر بباله من المؤذيات والمهلكات والتي كلها تقصده بالهلاك والأذى، والتي من بعضها شياطين الإنس والجن.
فالذي يكلؤه ويحرسه في نومه ويقظته هو الله وحده، فليحمده على هذه النعمة:
{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42)} [الأنبياء: 42].
ويتذكر أن الذي أعاده حياً سليماً بعد هذه الإماته قادر على أن يعيده بعد موتته الكبرى حياً كما كان.. ثم يقرأ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران 190 - 200].
ثم يقوم إلى الوضوء بقلب حاضر، فيتوضأ حسب السنة، ثم يصلي صلاة التهجد كما ورد في السنة إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة.. صلاة محب محتاج، مخلص لمحبوبه، متذلل مفكر بين يديه، لا صلاة مدلٍ بها عليه، يرى أن من أعظم نعم محبوبه عليه أن أقامه وأنام غيره، واستزاره وطرد غيره، وأكرمه وحرم غيره..
فهو يزداد بذلك محبة إلى محبته ويرى أن قرة عينه وحياة قلبه ولذته وسروره في تلك الصلاة، فهو يتملق لمولاه تملق المحب لمحبوبه، العزيز الرحيم، ويناجيه بكلامه، معطياً لكل آية حقها من العبودية، فتجذب قلبه وروحه آيات المحبة والود، وآيات الأسماء والصفات، وآيات الآلاء والإنعام والإحسان، وآيات الرحمة والرجاء والبر والمغفرة، وآيات وصف الجنة وما فيها من النعيم المقيم.
وتقلقه آيات الخوف والعدل والانتقام وإحلال غضبه بالمعرضين عنه العادلين به غيره، المائلين إلى سواه، وآيات وصف النار وما فيها من العذاب الأليم والنكال الشديد.
فإذا صلى ما كتب الله له، جلس مطرقاً بين يدي ربه، هيبة له وإجلالاً، واستغفره استغفار من قد تيقن أنه هالك إن لم يغفر له ويرحمه.
فإذا قضى من الاستغفار وطراً، وكان عليه بعدُ ليل، اضطجع على شقه الأيمن مجماً لنفسه، مريحاً لها، مقوياً لها على أداء وظيفة الفرض، فيستقبله نشيطاً كأنه لم يزل نائماً طول ليلته لم يعمل شيئاً.
فإذا أذن المؤذن إلى صلاة الفجر تابعه في الأذان ثم صلى ركعتي الفجر وهما خير من الدنيا وما فيها، ويبتهل إلى الله ويدعوه بينها وبين صلاة الفجر، فالدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة.
ثم ينهض إلى صلاة الصبح قاصداً الصف الأول عن يمين الإمام، فإن فاته ذلك قصد القرب منه مهما أمكن، فإن للقرب من الإمام تأثيراً في سر الصلاة، خاصة صلاة الفجر، فقرآن الفجر يشهده الله وملائكة الليل، وملائكة النهار.
وليس المراد الشهادة العامة، فإن الله على كل شيء شهيد، بل المراد شهادة خاصة، وهي شهادة حضور ودنو متصل بدنو الرب جل جلاله، ونزوله إلى السماء الدنيا، آخر كل ليلة حتى يطلع الفجر.
يصلي الصلاة في أول وقتها بخشوع قلب، كاملة الشروط والأركان والواجبات والسنن.
فإذا فرغ من صلاة الفجر أقبل بكليته، على ذكر الله والتوجه إليه بالأذكار المسنونة بعد كل فريضة، يداوم عليها، ويجعلها ورداً له لا يخل بها أبداً.
ثم يزيد عليها مما ورد من أذكار الصباح ما شاء، أو قراءة القرآن، ويجلس في مصلاه حتى تطلع الشمس حسناً.
فإذا طلعت قام متضرعاً إلى ربه، سائلاً إياه أن يكون ضامناً عليه، متصرفاً في مرضاته بقية يومه.
فلا يفعل شيئاً إلا في مرضاة ربه، من دعوة إلى الله، وتعليم لعباده، أو نفع وخدمة للمسلمين، أو اشتغال بنوافل العبادات، وإن كان من الأفعال الطبيعية قلبه عبادة بالنية، وقَصَدَ الاستعانة به على مرضاة ربه، فتكون عاداته عبادات.
ويقدم في كل وقت ما نفعه أعم على غيره، فيقدم الدعوة والتعليم على النوافل، ويؤخر العمل الانفرادي من أجل العمل الاجتماعي كما قال سبحانه وتعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} [يوسف: 108].
وقال سبحانه: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)} [آل عمران: 79].
وقال سبحانه: {وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)} [آل عمران: 80].
فإذا جاء فرض الظهر بادر إليه مؤدياً للسنة الراتبة قبله، مكملاً له، ناصحاً فيه لمعبوده، فهو لايبغي مجهوداً، بل يبذل مقدوره كله في تحسينه وتزيينه، وإصلاحه، وإكماله، ليقع موقعاً من محبوبه، فينال به رضاه عنه، وقربه منه.
أفلا يستحي العبد من ربه ومولاه ومعبوده، أن لا يكون في عمله هكذا، وهو يرى المحبين في أشغال محبوبيهم من الخلق، كيف يجتهدون في إيقاعها على أحسن وجه وأكمله لتسرّهم.
والله يحب من عبده إذا عمل عملاً أن يتقنه ظاهراً وباطناً.
ومن أنصف نفسه، وعرف أعماله، استحى من الله أن يواجهه بعمله، أو يرضاه لربه، وهو يعلم من نفسه أنه لو عمل لمحبوب له من الناس لبذل فيه نصحه، ولم يدع من أجل حُسْنه شيئاً إلا فعله: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)} [الكهف: 7].
فهذا حال هذا العبد مع ربه في جميع أعماله، إحسان للعمل، واستغفار بعد العمل؛ لأنه يعلم أنه لا يوفي هذا المقام حقه، فهو دائماً يستغفر الله عقيب كل عمل صالح.
قال الله تعالى: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)} [الذاريات: 18].
وكان النبي (إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثاً.
وفي الحج: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)}... [البقرة: 199].
فصاحب هذا المقام مضطر إلى التوبة والاستغفار في جميع أحواله، فلا يزال مستغفراً تائباً، وكلما كثرت طاعاته، كثرة توبته واستغفاره، وجماع الأمر في ذلك إنما هو بتكميل عبودية الله في الظاهر والباطن، فتكون حركات نفسه وجسمه كلها في محبوبات الله، وكمال عبودية العبد موافقة لربه في محبة ما يحب، وبذل الجهد في فعله، وموافقته في كراهة ما يكره، وبذل الجهد في تركه.
وهذا إنما يكون من النفس المطمئنة لا للأمارة ولا للوامة، فهذا كمال من جهة العمل والإرادة، وأما من جهة العلم والمعرفة فأن تكون بصيرته منفتحة في معرفة الأسماء والصفات والأفعال، له شهود خاص مطابق لما جاء به الرسول (لامخالف له، قائم بأحكام العبودية التي تقتضيها كل صفة بخصوصها.
وهذا سلوك الأكياس، الذين هم خلاصة العالم.
فالسير إلى الله عن طريق الأسماء والصفات شأنه عجيب، وفتحه عجيب، صاحبه قد سبقت له السعادة، وهو مستلق على فراشه، غير تعب ولا مكدور، ولا مشرد عن وطنه. فهو ساكن لا يُرى عليه آثار السفر، وقد قطع المراحل والمفاوز.
مختارات