الأصل الرابع عشر : من استطال الطريق ضعف مشيه
الأصل الرابع عشر : من استطال الطريق ضعف مشيه
الطريق إلى الله طويلة جدا , بعيدةجدا , ولذا تحتاج إلى همة وعمل دائم وعدم التفات لكى تقطعها وتصل بسلام , وإلا فلو ظللت تقول : الطريق طويلة وبعيدة وأنت مكانك , فلن تصل .. فاستعن بالله واترك الشكوى .. اعمل واجتهد واتعب حتى الموت , قال – تعالى - : " واعبد ربك حتى يأتيك اليقين " ( الحجر : 99 ) , اى الموت .
وقال – تعالى - : " فإذا فرغت فانصب " ( الشرح : 7 ) . قال ابن كثير : " وقال زيد بن أسلم والضحاك : فإذا فرغت أى من الجهاد , فانصب أى : فى العبادة : " وإلى ربك فارغب " ( الشرح : 8 ) . قال الثورى : اجعل نيتك ورغبتك إلى الله – عز وجل – " .
" فإذا فرغت من شغلك مع الناس ومع الارض , ومع شواغل الحياة .. إذا فرغت من هذا كله , فتوجه بقلبك كله إذا إلى ما يستحق أن تنصب فيه وتكد وتجهد .. العبادة والتجرد والتطلع والتوجه .. " وإلى ربك فارغب " ..إلى ربك وحده خاليا من كل شىء حتى من أمر الناس الذين تشتغل بدعوتهم إنه لابد من الزاد للطريق . وهنا الزاد . ولابد من العدة للجهاد . وهنا العدة وهنا ستجد يسرا مع كل عسر وفرجا مع كل ضيق هذا هو الطريق ! " .
هذا هو الطريق إلى الله , فجد ولا تنم , فرسول الله صلى الله عليه وسلم لما قالت له خديجة : ألا تنام يا رسول الله ؟! , قال : " مضى عهد النوم يا خديجة " .. وقال صلى الله عليه وسلم لعائشة لما تعجبت من عبادته وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه : " أفلا أكون عبدا شكورا " [متفق عليه].
أخى فى الله , اثبت فى الطريق على الطاعة ولا تيأس من طول الطريق , فما عليك إلا أن تجد السير وتسرع الخطا ولا تلتفت وستصل بإذن الله .. صبر نفسك واصطبر , واعلم أن الصبر على الطاعة هو الصبر الاعلى , وأكمل الناس صبرا على الطاعة أولوا العزم من الرسل , وذلا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصبر صبرهم , فقال – تعالى - :" فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل " ( الاحقاف : 35 ) , ومعلوم أن الامر للقدوة أمر لأتباعه .. ونهاه أن يتشبه بصاحب الحوت , حيث لم يصبر صبر أولى العزم , فقال – تعالى - : " فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم " ( القلم : 48 ) .
ولقد جعل الله الوصول إليه والفوز بالجنة والنجاة من النار لا يحظى به إلا الصابرون , فقال – تعالى - :
" إنى جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون " ( المؤمنون : 111 ) .
وفى الصحيح عن رسولنا صلى الله عليه وسلم " وما أعطى أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر ". وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الصبر ضياء .
وقال على بن أبى طالب : الصبر مطية لا تكبو .
وقال سليمان بن القاسم : كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر , قال – تعالى - : " إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب " ( الزمر : 10 ) , قال : كالماء المنهمر .
أخى فى الله , اصبر فى السير إلى الله ولا تستطل الطريق , فلقد صبر نوح فأوقف أنفاسه على الدعوة إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاما .. لم يستطل الطريق , بل ظل مع الله فى أطول صبر عرفه تاريخ البشرية .. وأكرم صبر .
قال ابن كثير فى قصص الانبياء : " وكان كلما انقرض جيل وصوا من بعدهم بعدم الايمان به – أى بنوح – ومحاربته ومخالفته , وكان الوالد إذا بلغ ولده وعقل عنه كلامه , وصاه فيما بينه وبينه ألا يؤمن بنوح .. أبدا ما عاش ودائما ما بقى " اهـ .
قال – تعالى - " قال رب إنى دعوت قومى ليلا ونهارا * فلم يزدهم دعائى إلا فرارا * وإنى كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم فى آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا * ثم إنى دعوتهم جهارا * ثم إنى أعلنت لهم وأسررت لهم إسرارا * فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا * ما لكم لا ترجون لله وقارا " ( نوح : 5 – 13 ) .
قال أبو القاسم الغرناطى فى التسهيل لعلوم التنزيل : "ذكر أولا أنه دعاهم بالليل والنهار , ثم ذكر أنه دعاهم جهارا , ثم ذكر أنه جمع بين الجهر والإسرار , وهذه غاية الجد فى النصيحة وتبليغ الرسالة " اهـ .
وقال القاسمى فى محاسن التأويل : " بذل نوح غاية الجهد دائما بلا فتور ولا توان , وضاقت عليه الحيل فى تلك المدد الطوال " اهـ .
ويقول أخى فضيلة الشيخ سيد بن حسين العفانى – حفظه الله تعالى - :
" كفاح نبيل طويل : سلك نوح إلى آذان قومه وقلوبهم وعقولهم شتى الاساليب ومتنوع الوسائل فى دأب طويل , وفى صبر جميل , وجهد نبيل , ألف سنة إلا خمسين عاما .. ثم عاد إلى ربه ليقدم حسابه , ويبث شكواه , فى هذا البيان المفصل وفى هذه اللهجة المؤثرة .
وصورة نوح فى دعوته ,وهو لا يمل ولا يفتر , ولا ييأس أيام الاعراض والاصرار , صورة لاصرار الداعية على الدعوة , وتحين كل فرصة ليبلغهم إياها , واصرارهم هم على الضلال .
ولم ينس نوح – عليه الصلاة والسلام – الدعوة حتى حين حضرته الوفاة , فقد وصى ابنيه بـ " لا إله إلا الله " ونهاهما عن الشرك , وأمرهما بسبحان الله وبحمده .
وإن الانسان ليأخذه الدهش والعجب , كما تغمره الروعة والخشوع , وهو يستعرض هذا الجهد الموصول من الرسل – عليهم صلوات الله وسلامه – لهداية البشرية الضالة المعاندة , ويتدبر إرادة الله المستقرة على إرسال هؤلاء الرسل , واحدا بعد واحد لهذه البشرية المعرضة العنيدة .
وقد يعن للانسان ان يسأل : ترى هل تساوى الحصيلة هذا الجهد الطويل , وتلك التضحيات النبيلة , من لدن نوح عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم , ثم ما كان بينهما وما تلاهما من جهود المؤمنين بدعوة الله وتضحياتهم الضخام , ترى : هل تساوى هذا الجده الذى وصفه نوح عليه السلام , وقد استغرق عمرا طويلا بالغ الطول , لم يكتف قومه فيه بالاعراض , بل اتبعوه بالسخرية والاتهام , وهو يتلقاها بالصبر والحسنى , والادب الجميل والبيان المنير ؟!! .
ثم تلك الجهود الموصولة منذ ذلك التاريخ , وتلك التضحيات النبيلة التى لم تنقطع على مدار التاريخ من رسل يستهزأ بهم , أو يحرقون بالنار , أو ينشرون بالمنشار , أو يهجرون الاهل والديار .. حتى تجىء الرسالة الاخيرة , فيجهد فيها محمد صلى الله عليه وسلم ذلك الجهد المشهود المعروف , ثم تتوالى الجهود المضنية والتضحيات المذهلة من القائمين على دعوته فى كل أرض وفى كل جيل ؟؟ ..
ترى تساوى الحصيلة كل هذه الجهود , وكل هذا الجهاد الشاق المرير ؟!
ثم ترى هذه البشرية كلها تساوى تلك العناية الكريمة من الله , المتجلية فى استقرار إرادته – سبحانه – على إرسال الرسل تترى , بعد العناد والاعراض والاصرار والاستكبار من هذا الخلق الهزيل الصغير المسمى بالانسان ؟! . والجواب بعد التدبر : أن نعم : وبلا جدال !!
إن استقرار حقيقة الايمان بالله فى الارض بساوى كل هذا الجهد , وكل هذا الصبر , وكل هذه المشقة , وكل هذه التضحيات النبيلة المطردة من الرسل وأتباعهم الصادقين فى كل جيل !
الدعوة إلى الله لابد أن تمضى فى طريقها كما أراد الله , لأن الحصيلة تستحق الجهود المضنية والتضحيات النبيلة , ولو صغرت فانحصرت فى قلب واحد , يقرب من الله ويحبه ويشتاق إليه . قال صلى الله عليه وسلم : " عرضت علىّ الامم , فرأيت النبى ومعه الرهط , والنبى ومعه الرجل والرجلان , والنبى وليس معه أحد " [متفق عليه] اهـ .
حبيبى فى الله , لا تستطل الطريق إلى الله , فمن استطال الطريق ضعف مشيه , فواصل العمل .. واصل , فالله معك .. واعلم أن الشرط فى السير أن تجهد وتتعب .. فواصل العمل وى تنقطع .. وتذكر دائما نوحا عليه السلام .. أخى فى الله , اعمل بلا انقطاع , وعند الله المستراح .
إخوتاه , زنوا حلو المشتهى بمر العقاب يبن لكم التفاوت .. لما عرف القوم قدر الحياة , أماتوا فيها الهوى فعاشوا , جمعوا بأكف الجد من الزمن ما نثره زمن البطالة .. هان عليهم طول الطريق لعلمهم أين المقصد , وحلت له مرارات البلى حبا لعواقب السلامة , فيا بشراهم يوم يقال : " هذا يومكم "
* * *
مختارات
-
" المستشارة "
-
" وأسلم جايسون "
-
" الأعمال المثقلة للميزان : العمل الثامن عشر : العمل بأحب الأعمال إلى الله تعالى وأفضلها "
-
" آداب تلاوة القرآن الكريم "
-
يوم في حياة أمة!
-
بعض الأحكام المتعلقة بالمرأة الطبيبة أو الممرضة
-
معارك صغيرة!
-
اعترافات حول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
-
الرقيب الشهيد
-
من آداب طلاب الحلقات في أنفسهم