حال المقتصد
حال المقتصد
قال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)}... [فاطر: 32].
وجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يَسْألُهُ عَنِ الإِسْلامِ، فَقال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ». فَقال: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قال: «لا، إِلا أنْ تَطَّوَّعَ». فَقال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «وَصِيَامُ رَمَضَانَ». قال: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قال: «لا، إِلا أنْ تَطَّوَّعَ». قال: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الزَّكَاةَ، قال: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قال: «لا، إِلا أنْ تَطَّوَّعَ». فَأدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لا أزِيدُ عَلَى هَذَا وَلا أنْقُصُ، فقال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: «أفْلَحَ إِنْ صَدَقَ» متفق عليه (1).
المقتصد: هو من اقتصر من الزاد على ما يبلغه، ولم يشد مع ذلك أحمال التجارة الرابحة، ولم يتزود ما يضره.
فهو سالم غانم، لكن فاتته المتاجر الرابحة، وأنواع المكاسب الفاخرة.
فهذا قد أدى وظيفة تلك المرحلة، ولم يزد عليها، ولا نقص منها، فلا حصل على أرباح التجار، ولا بخس الحق الذي عليه.
فإذا استقبل مرحلة يومه استقبلها بالطهور التام، والصلاة التامة في وقتها بأركانها وواجباتها وشروطها، ثم ينصرف منها إلى مباحاته ومعيشته وتصرفاته التي أذن الله فيها مشتغلاً بها، مؤدياً واجب الرب فيها، غير متفرغ لنوافل العبادات والأوراد والأذكار والتوجه.
فإذا حضرت الفريضة الأخرى بادر إليها كذلك، فإذا أكملها انصرف إلى حاله، فهو كذلك سائر يومه، فإذا جاء الليل فكذلك إلى حين النوم، فيأخذ مضجعه إلى أن ينشق الفجر، فيصلي ويقوم إلى غذائه ووظيفته.
فإذا جاء الصوم الواجب قام بحقه، وإن كان له مال تجب فيه الزكاة أدى حق الله فيه من الزكاة الواجبة.
وكذلك الحج الواجب يؤديه كما أمر الله ورسوله.
وكذلك المعاملة مع الخلق يقوم فيها بالقسط، ولا يظلمهم ولا يترك حقهم.
فالأبرار المقتصدون قطعوا مراحل سفرهم بالاهتمام بإقامة أمر الله، وعقد القلب على ترك مخالفته ومعاصيه.
فهممهم مصروفة إلى القيام بالأعمال الصالحة، واجتناب الأعمال القبيحة.
فأول ما يستيقظ أحدهم من منامه يسبق إلى قلبه القيام إلى الوضوء والصلاة كما أمره الله، فإذا أدى فرض وقته اشتغل بالتلاوة والأذكار المشروعة إلى حين تطلع الشمس، ثم ذهب إلى ما أقامه الله فيه من الأسباب المشروعة.
فإذا حضر فرض الظهر بادر إلى التطهر والسعي إلى الصف الأول من المسجد، فأدى صلاته كما أمر، مكملاً لها بآدابها وأركانها وسننها، وحقائقها الباطنة من الخشوع والمراقبة، والحضور بين يدي الرب.
فينصرف من الصلاة وقد أثرت في قلبه وبدنه، وسائر أحواله، آثاراً تبدو على صفحاته ولسانه وجوارحه.
ويجد ثمرتها في قلبه من الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله، وقلة التكالب والحرص على الدنيا.
قد نهته صلاته عن الفحشاء والمنكر، وحببت إليه لقاء الله، ونفرته من كل قاطع يقطع عن الله والدار الآخرة، فهو مهموم مغموم كأنه في سجن حتى تحضر الصلاة، فإذا حضرت قام إلى نعيمه وسروره وقرة عينه.
هذا وهم في ذلك كله مراعون في حفظ السنن، لا يُخِلُّون منها بشيء ما أمكنهم.
فيقصدون من الوضوء أكمله.. ومن الوقت أوله.. ومن الصفوف أولها، عن يمين الإمام، أو خلف ظهره.
ويأتون بعد الفريضة بالأذكار المشروعة، ثم يركعون السنة على أحسن الوجوه، هذا دأبهم في كل فريضة.
فإذا كان قبل غروب الشمس توافروا على أذكار المساء الواردة في السنة، نظير أذكار الصباح الواردة في أول النهار، لا يُخِلُّون بها أبداً.
فإذا جاء الليل كانوا فيه على منازلهم من مواهب الرب سبحانه التي قسمها بين عباده، فإذا أخذوا مضاجعهم أتوا بأذكار النوم الواردة في السنة، فلا يزال يذكر الله على فراشه حتى يبلغه النوم وهو يذكر الله.
فهذا منامه عبادة وزيادة له في قربه من الله، فإذا استيقظ عاد إلى عادته الأولى.
ومع هذا فهو قائم بحقوق العباد:
من عيادة المرضى.. وتشييع الجنائز.. وإجابة الدعوة.. والمعاونة لهم بالجاه والبدن والمال والنفس.. وزيارتهم وتفقدهم.
وقائم كذلك بحقوق أهله وعياله، فهو متنقل في منازل العبودية كيف نَقَلَه فيها الأمر، فإذا وقع منه تفريط في حق من حقوق الله بادر إلى الاعتذار والتوبة والاستغفار، وكده ومداواته بعمل صالح يزيل أثره، فهذه وظيفته دائماً.
وهؤلاء هم أصحاب اليمين الذين يستمتعون في الجنة بما لذ وطاب من النعيم المقيم كما قال سبحانه: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)} [الواقعة: 27 - 40].
ومن أنفع ما للقلب: النظر في حق الله على العباد، فإن ذلك يورثه مقت نفسه، ويخلصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ورحمته.
وإذا تأمل العاقل حال أكثر الناس وجدهم بضد ذلك، ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم.
ومن هنا انقطعوا عن معرفة الله، وحُجبوا عن معرفته، ومحبته، والأنس بمناجاته، ولذة عبادته، وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه.
فمحاسبة النفس هي نظر العبد في حق الله عليه أولاً، ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانياً.
وأفضل الفكر الفكر في ذلك، فإنه يُسيِّر القلب إلى الله، ويطرحه بين يديه خاضعاً ذليلاً منكسراً، ويحرك قلبه وجوارحه لطاعة مولاه، والمنافسة في الخيرات.
والناس في الفكر والإرادة أربعة أقسام:
الأول: من يريد الله لذاته، فهو مشغول بما يحبه ويرضيه دون سواه.
الثاني: من يريد الله، ويريد منه.
الثالث: من يريد منه، ولا يريده.
الرابع: من لا يريده، ولا يريد منه.
فآثر هؤلاء العبيد عند الله وأحبهم إليه وأقربهم منه الأول، لكمال معرفته بربه، فذاك العبد حقاً، العارف حقاً.
ويا ليتنا نسير بدرب العبد الثاني، والخوف علينا أن نسير بدرب العبد الثالث.
أما العبد الرابع فهو من الأشقياء الهالكين؛ لأنه أعرض عن ربه، وتعلق ببعض عبيده، فله يريد، ومنه يريد.
مختارات