في رحاب قول الله تعالى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا)
لقد عوّدنا القرآن الكريم حين يأمر الله تعالى عباده أن يشكروه على نعمه عليهم –وهي مما لا يعد ولا يُحصى- أن يستعمل الأسلوب الآتي:
في البقرة وكثير من السور قوله تعالى 1- ﴿لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ وقد تكررت في القرآن الكريم كثيراً أي كي تشكروا.
وفي الواقعة [70] 2- ﴿فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ﴾ ولولا إذا دخلت على الفعل المضارع أفادت التحضيض بمعنى «هلّا».
وفي يس [35و 73] 3- ﴿أَفَلَا يَشْكُرُونَ﴾ وهي كسابقتها تفيد طلب الشكر لله على نعمائه.
وفي البقرة [152] 4- ﴿وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ﴾ وهذه تأمر بالشكر، وتنهى عن جحود النعمة لأنها كفر.
وفي الأنبياء [80] 5- ﴿فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ﴾ استفهام يُراد منه الطلب والترغيب بالشكر.
وفي الزمر [7] 6- ﴿وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ فالله تعالى يرضى عن الذين يشكرونه.
وفي إبراهيم [7] 7- ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾ قَسَمٌ بأن الله تعالى يزيد وسيزيد له من فضله.
وفي الزمر [66] 8- ﴿وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ﴾ أمرٌ بالتزام ودوام الشكر من العبد لربّه.
أما أن يُقال: «اعملوا شكراً» فهو أسلوب لم يُعهد وصيغة لم تَردْ إلا في هذه الآية من سورة سبأ الآية [13]: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾.
وقد ذهب المفسرون إلى أن المعنى: اعملوا لله على وجه الشكر لنعمائه، وكونوا دائماً من الشاكرين، والتزموا بالشكر وداوموا عليه لله في أي عمل صالح تقومون به؛ فهو الذي قوّاكم على فعل الخيرات.
وهذا تفسير جميل مقبول، ولكنَّ أسلوب هذه الآية الفريد يجعلني أميل إلى معنى أراه أرجح وأقرب وأصوب، وهو مما يناسب الآيات التي سبقت أو لحقت هذه الآية، فقد سُبِقتْ بقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ10/أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ11﴾ [سبأ: 10- 11] وهو أمر الله لداود عليه السلام أن يصنع دروعاً للحرب واسعة ساترة لموضع الخطر من الصدر وغيره –وقد ألان الله له الحديد- وأن يُحكِمَ اتصال كل حلقة منها بالتي تليها وأن يُقدّر ويُتقن سَرْدَها لتتناسب حِلَقُها فتصُدَّ ضربة العدو، وتحمي لابسها من الخطر والضرر والشرر.
وأن يكون سيدنا داود –هو وأهله ومن يؤمن معه ويتبعه- من الذين يتقنون أعمالهم، ويحسنون أفعالهم، ولا يقومون إلا بعمل أو فعل متقنٍ صالحٍ، فالله بصير بعمل الجميع يجازي بالخير خيراً وثواباً، وبالشر عقاباً وعذاباً.
وجاء بعدها قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ14﴾ [سبأ: 14].
أي: لما قضى الله تعالى على سيدنا سليمان عليه السلام وهو ابن داود عليه السلام الموتَ وكان يراقب الجنَّ الذي سُخّروا لخدمته يصنعون له ويعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان وقدور راسيات، فما دلَّ الجنَّ على موته إلّا «الأَرَضَةُ» -وهي دويِّبة تأكل الخشب- حيث أكلتْ شيئاً من عصاه التي مات وهو متكئ عليها فخرَّ على الأرض، فوقف الجنُّ عن العمل الشديد الذي أمرهم به، وعلموا وتيقنوا أنهم لا يعلمون الغيب- وعلى الناس أن يعلموا ويوقنوا بذلك- إذ لو علموا الغيب لأدركوا موته فوراً قبل أن تأكل الأَرَضَةُ شيئاً من عصاه فيقع على الأرض.
وهذا يدلّ على وجوب مراقبة العامل –وهو يعمل- لئلا يهمل أو يكسل، كما يوجب على كل عامل أن يخلص لله تعالى في كل قول أو عمل أو فعل أو تصرف، وأن يتقن عمله ليكون كاملاً تاماً لا نقص فيه ولا عيب –ولو لم يراقبه صاحب العمل- كما أن على التلميذ أن لا يغش في الامتحان -ولو لم يكن عليه مراقب من البشر- وقد علَّمنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يحب من العبد ولا سيما المؤمن إذا عمل عملاً أن يُتقنَه. فالإتقان دليل الصدق في الإيمان.
و«الشكور» اسم فاعل وصيغته مبالغة من شاكر، ويراد من «الشكور» أن يداوم على الشكر لله في كل أحواله –سراً وعلناً- سفراً وحضراً –قلباً وقالباً- شكلاً ومضموناً- في السراء والضراء، وأن يتقن عمله مخلصاً لوجه الله فيه يشكر بلسانه، ويستحضر فضل الله عليه بقلبه، ويظهر شكره لله على جوارحه وأعضائه، فيلزم الصدق والأمانة والإتقان والحلال، ويتجنب الغش والخيانة والإفساد والإهمال والحرام في المال والأقوال والأعمال والأفعال، ولما كانوا قلةً –ولا سيما في هذا القرن- بين الناس فقد انتهت آية سبأ [13] بقوله تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾.
وخلاصة ذلك جعلني أرجّح أن معنى الآية: اعملوا آلَ داود عملاً صالحاً متقناً كاملاً تاماً نافعاً مُجدِياً يُحقِّق لكم شكراً ودعاء بالخير لكم من الناس، وشكراً وثواباً وتوفيقاً من الله رب الناس والعالمين.
ويؤيّد هذا مثيلٌ له في كتاب الله الكريم:
1- ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْرًا لَّكُمْ﴾ [النساء: 170].
2- ﴿فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ﴾ [النساء: 171].
فهما بعض آيتين يأمر الله فيهما الناس جميعاً أن يؤمنوا إيماناً كاملاً، وأن يوقنوا بالله يقيناً صادقاً، وأن يؤمنوا بكل ما أمرهم أن يؤمنوا به –وعلى رأس ذلك عقيدة التوحيد- فيعتقدوا أن الله عز وجل واحد لا شريك له: «أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد لا زوجه له ولا ولد» ويأمر أهل الكتاب بذلك، وأن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم «الرسول إلى الناس كافة»؛ فقد جاءهم بالحق من ربهم «رب العالمين».
وتقدير الآيتين: آمنوا إيماناً صادقاً يكون خيراً لكم، وآمنوا إيماناً –قولاً وعملاً واعتقاداً- إيماناً واعتقاداً بالجَنان «القلب» وقولاً باللسان، وعملاً بالأعضاء والأركان، وهو إيمان يحقق لكم خيرَيِ الدنيا والآخرة. ويؤيد هذا ويدعمه قوله تعالى:
1-: ﴿وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم﴾ [آل عمران: 110].
2-: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ [النساء: 66].
3-: ﴿وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ﴾ [التغابن: 16].
فإعراب كلمة «خيراً» في النساء [170] و[171] والتغابن [16] خبر لفعل يكون المحذوفة المقدرة وهو خبر منصوب بالفتحة الظاهرة على آخره، أو مفعول به لفعل يحقق، وفعل يحقق أو يكون صفة لمفعول مطلق محذوف أي: آمنوا إيماناً يكون أو يحقق خيراً لكم، وأنفقوا إنفاقاً يكون أو يحقق ثواباً لكم. مما يؤيد ما قلناه في آية [سبأ: 13]: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾ أي اعملوا عملاً صالحاً متقناً يكون سبباً لشكر الناس بعد شكر الله لكم، أو يحقق حبَّ الناس بعد حبّ الله لكم، فتدبّر.
* * *
* المصدر:
- الجديد في فقه لغة القرآن الكريم: الشيخ هشام الحمصي.
مختارات