الجفاء
إن الجفاء صفة ذميمة و مظهر من مظاهر سوء الخلق، يورث التفرق و الوحشة بين الناس و يقطع ما أمر الله به أن يوصل، فكم من بيت تخرب و أسرة تهدمت بسببه، و كم من جفوة و نفرة بين الأحبة حدثت بسبب غلظة الطبع و الخرق في المعاملة و ترك الرفق في الأمور، والجفاء قد يكون طبعا و قد يكون تطبعا و كلاهما سيئ، و المؤمن الحق يتدارك نفسه بالبعد عن أسبابه و صوره، و في الحديث: " من بدا جفا ". (رواه أحمد و الترمذي و قال حسن صحيح)، أي من سكن البادية غلظ طبعه، والإنسان ابن بيئته - كما يقولون - فالجفاء يزيد في أهل المغرب عن أهل المشرق، و في أهل البادية و رعاة الإبل عن غيرهم، و عن ابن مسعود-رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: " الإيمان ها هنا- و أشار إلى اليمن- و الجفاء و غلظ القلوب في القدّادين (المكثرون من الإبل) عند أصول أذناب الإبل من حيث يطلع قرنا الشيطان ربيعه و مضر ". (رواه البخاري و مسلم).
وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: " الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، و البذاء من الجفاء و الجفاء في النار ". (رواه الترمذي و ابن ماجة، و قال: حسن صحيح).
لكل شيء من اسمه نصيب
لقد لوحظ التناسب الواضح بين الأسماء و المسميات و بين الإنسان و الكون من حوله، و بينه و بين طبيعة مهنته، فطبيب الأطفال قد يفترق عن طبيب الجراحة، و طبع الجند و العسكر قد يختلف عن غيرهم، و ليس لأحد أن يبرر جفاءه متعللا بطبيعة النشأة و البيئة أو الصنعة، فقديما قالوا: ما عُصِيَ الله إلا بالتأويل.
القرآن يذم الجفاء
و قد وردت النصوص تذم الجفاء و تنفر منه، قال تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك) (آل عمران:159). و قال سبحانه: (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا و لكن قست قلوبهم و زين لهم الشيطان ما كانوا يعملون) (الأنعام:43). وقال: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين) (الزمر:22).
و قال جل و علا: (ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله و ما نزل من الحق و لا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم و كثير منهم فاسقون) (الحديد:16).
والسنة تنهى عن الجفاء
وكما ورد ذم الجفاء في القرآن الكريم فقد ورد النهي عنه في السنة المطهرة، فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: " إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم و حامل القرآن غير الغالي فيه و الجافي عنه و إكرام ذي السلطان المقسط ". (رواه أبو داود وحسنه الألباني). وقد ورد في أخبار الساعة: " وإذا كانت العُراة الحُفاة الجُفاة رؤوس الناس فذاك من أشراطها... ". (الحديث، رواه أحمد و البخاري و مسلم)، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه و سلم: " قال أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم ". (رواه البخاري و مسلم). و الألد الخصم هو الذي يفجر في خصومته، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تهجّروا(أي لا تتكلموا بالكلام القبيح) و لا تدابروا، ولا تجسسوا، و لا بيع بعضكم على بيع بعض، و كونوا عباد الله إخوانا ". (رواه مسلم).
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: " لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاثِ ليالٍ، يلتقيان فيُعْرِضُ هذا و يُعْرِضُ هذا، و خيرُهُما الذي يبدأ بالسلام ". (رواه البخاري و مسلم) وهذا الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم لا شك مظهر من مظاهر الجفاء. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فمات دخل النار ". (رواه أبو داوود و صححه الألباني).عن أبي خراش السلمي رضي الله عنه ـ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه ". (رواه أبو داوود وصححه الألباني).
وعن سهل بن سعد ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: " المؤمن مَأْلَفَةٌ (يعني يألف الناس ويألفونه)، و لا خير فيمن لا يألف و لا يؤلف ". (رواه أحمد، و قال الألباني:صحيح على شرط مسلم).
وبالجملة فالجفاء و الغلظة يبغضها الله عز وجل والملائكة والناس أجمعون، وعلى المؤمن أن يتخلى عن العنف والقسوة والعبوس والطيش وسوء المعاملة وعقوق الوالدين وسوء الظن، و أن يتحلى بمعاني الرفق و الرحمة والبر والعطف و الحلم، فالتخلية قبل التحلية، و أن يجاهد نفسه في التباعد عن أسباب العنف و صوره، قال تعالى: (قد أفلح من زكاها و قد خاب من دساها) و قال: (و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و إن الله لمع المحسنين) و على العبد أن يجأر إلى الله بالدعاء عساه يرزقه حسن التأسي بنبيه صلى الله عليه و سلم فقد كان ألين الناس ضحاكا بساما يصل الرحم ويحمل الكل و يكسب المعدوم و يقري الضيف و يعين على نوائب الحق، و من كان كذلك لا يخزيه الله أبدا كما قالت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها.
هيا بنا نتخلق بأخلاق المؤمنين، فالمؤمن هين لين سهل ذلول منقاد للحق يألف و يؤلف و لا خير في الجافي الغليظ الذي لا يألف و لا يؤلف.
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
مختارات