فقه الفقر (٤)
فهو سبحانه الأول في كل شيء.
والآخر في كل شيء.
الظاهر فوق كل شيء.
الباطن دون كل شيء.
فعبوديته باسمه الأول تقتضي التجرد من مطالعة الأسباب والوقوف عليها والالتفات إليها، وتجريد النظر إلى مجرد سبق فضل الله ورحمته، وأنه هو المبتدئ بالإحسان من غير وسيلة من العبد.
فمنه سبحانه الإعداد.
ومنه الإمداد.
وفضله سابق على الوسائل.
والوسائل من مجرد فضله وجوده.
وعبوديته باسمه الآخر تقتضي كذلك عدم ركونه ووقوفه بالأسباب والوقوف معها، فإنها تنعدم لا محالة، وتنقضي بالآخرية ويبقى الدائم الباقي بعدها.
فالتعلق بها تعلق بما يموت ويفنى، والتعلق بالآخر تعلق بالحي الذي لا يموت ولا يزول.
فالأمر ابتدأ منه سبحانه وإليه يرجع، فهو المبتدئ بالفضل حيث لا سبب ولا وسيلة، وإليه ينتهي الأمر حيث تنتهي الأسباب، فكان الله ولم يكن شيء غيره، وكل شيء هالك إلا وجهه، فهو سبحانه أول كل شيء وآخره، وكما أنه رب كل شيء وخالقه وبارئه فهو إلهه ومعبوده.
وعبوديته باسمه الظاهر أن يعلم أن ربه ليس فوقه شيء، له العلو المطلق على كل شيء بذاته، القاهر فوق عباده.
فالتعبد باسمه الظاهر يجمع القلب على المعبود، ويجعل له رباً يقصده، ويلجأ إليه، ويتوكل عليه ويفر إليه.
وعبوديته باسمه الباطن أن يعلم أن ربه ليس دونه شيء، وأنه محيط بالعالم، وأنه العظيم الذي كل العوالم في قبضته ظاهرها وباطنها كبيرها وصغيرها فكما أنه
العالي على خلقه بذاته فليس فوقه شيء، فهو الباطن بذاته فليس دونه شيء، بل ظهر على كل شيء فكان فوقه، وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه.
الدرجة الثالثة: صحة الاضطرار، وهذه الدرجة فوق الدرجتين قبلها، فإن الفقر الأول فقر عن الأعراض الدنيوية، والثاني فقر عن رؤية المقامات والأحوال، والثالث فقر عن ملاحظة الموجود الساتر للعبد عن مشاهدة الوجود، فيبقى الوجود كله في قبضة الحق عزَّ وجلَّ كالهباء المنثور في الهواء يتقلب بتقليبه إياه.
فالفقر الأعلى أن يشهد العبد اضطراره إلى الحي القيوم، ويشهد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فقراً تاماً إليه من جهة كونه رباً له، ومن جهة كونه إلهاً معبوداً لا غنى له عنه، كما لا وجود له بغيره.
فهذا هو الغني بلا مال، القوي بلا سلطان، العزيز بلا عشيرة، المكفي بلا عتاد.
قد قرت عينه بالله فقرت به كل عين، واستغنى بالله فافتقر إليه الأغنياء والملوك.
وهذا الفقير المضطر إلى خالقه في كل طرفة عين إن حركه ربه بطاعة أو نعمة شكرها، وقال هذا من فضل ربي ومنه، فله الحمد.
وإن تحرك بمبادئ معصيته صرخ واستغاث بربه قائلاً: أعوذ بك منك، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.
فإن تم تحريكه بمعصية التجأ إلى ربه التجاء أسير قد أسره عدوه وهو يعلم أنه لا خلاص له ولا يفكه من أسره إلا سيده، أما هو فلا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فهو في أسر العدو ناظر إلى سيده متى يفكه منه؟.
فهو سبحانه الذي ينجي من قضائه بقضائه، وهو الذي يعيذ بنفسه من نفسه، وهو سبحانه الذي يدفع ما منه بما منه، فالخلق كله له، والأمر كله له، والحكم كله له، وما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
ولا يهدي لأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق إلا هو، ولا يصرف سيئها إلا هو: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧)} [يونس: ١٠٧].
والغنى والفقر مطيتان يركبهما الناس إلى الآخرة.
والغنى له عبودية.
والفقر له عبودية.
وكما أن للغنى أوامر.
فكذلك للفقر أوامر.
والغنى كالفقر أمر من أوامر الله يبتلى بهما العباد، والمسلم غني بربه فلا يخاف من الفقر، وكيف يخاف المسلم من الفقر ومولاه له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى؟.
وحقيقة الفقر: أن يصير العبد كله لله، لا يبقى عليه بقية من نفسه وحظه وهواه؛ لأنه إذا كان لنفسه فليس لله، وإذا لم يكن لنفسه فهو لله.
فحقيقة الفقر أن لا تكون لنفسك، ولا يكون لها منك شيء، بحيث تكون كلك لله، وإذا صح الافتقار إلى الله تعالى فقد صح الاستغناء بالله، وإذا صح الاستغناء بالله كمل الغنى به.
ولفظ الفقر ورد في القرآن في ثلاثة مواضع:
أحدها: في قوله سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣)} [البقرة: ٢٧٣].
الثاني: في قوله سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦٠)} [التوبة: ٦٠].
الثالث: في قوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥)} [فاطر: ١٥].
فالصنف الأول: خواص الفقراء.
والثاني: فقراء المسلمين عامهم وخاصهم.
والثالث: الفقر العام لأهل الأرض كلهم فقيرهم وغنيهم، ومؤمنهم وكافرهم.
والمراد بالفقر هنا شيء أخص من هذا كله، وهو تحقيق العبودية لله، والافتقار إلى الله تعالى في كل حال، والاستغناء به عما سواه.
وأما الفقير الصابر.
والغني الشاكر.
أيهما أفضل؟.
فإن التفضيل لا يرجع إلى ذات الفقر والغنى، وإنما يرجع إلى الأعمال والأحوال، والتفضيل عند الله بالتقوى لا بالغنى والفقر كما قال سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: ١٣].
والفقر والغنى ابتلاء من الله لعباده كما قال سبحانه: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (١٦) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠)} [الفجر: ١٥ - ٢٠].
فالإكرام ليس بالغنى، والإهانة ليست بالفقر، بل الإكرام أن يكرم الله عبده بطاعته والإيمان به، ومحبته ومعرفته، والإهانة أن يسلبه ذلك.
والدنيا: ما سوى الله تعالى من المال والجاه، والصور والمراتب، وهي اسم لمدة بقاء هذا العالم.
أو اسم لما بين السماء والأرض، فعلى الأول تكون الدنيا زماناً، وعلى الثاني تكون مكاناً.
ولما كان لها تعلق بالقلب واللسان والجوارح كان حقيقة الفقر تعطيل هذه الثلاثة عن تعلقها بها، وسلبها منها، وتفريغها لطاعة الله، وتحريكها وتشغيلها بامتثال أوامر الله، وحبسها عن محارم الله.
وجميع ما يدب على وجه الأرض من آدمي وحيوان، بري أو بحري، وكل طير، وكل حشرة، وكل ذرة، فالله تعالى قد تكفل بأرزاقهم وأقواتهم، وهم جميعاً فقراء إليه في إيجادهم وإمدادهم وبقائهم.
وهو سبحانه الذي يعلم مستقر هذه الدواب، والمكان الذي تنتقل إليه في ذهابها ومجيئها، وجميع حركاتها وسكناتها، وعوارض أحوالها، كل ذلك كتبه الله في اللوح المحفوظ، الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وهذه الخلائق جميعاً قد أحاط بها علم الله، وجرى بها قلمه، ونفذت فيها مشيئته، ووسعها رزقه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦)} [هود: ٦].
فلتطمئن القلوب إلى كفاية من تكفل بأرزاقها، وأحاط علماً بذواتها وصفاتها، ومكانها وزمانها، وقسم أرزاقها، ولتعمل بما أمرها الله ورسوله به من الإيمان بالله، وتوحيده وطاعته، وفعل ما أمرها الله به، واجتناب ما نهى الله عنه {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (٦٩) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (٧٠)} [النساء: ٦٩، ٧٠].
مختارات