105. عبد الله بن عتيك
عبد الله بن عتيك
قائد أجرإ مغامرة عرفها تاريخ الفداء
"ظل عبد الله بن عتيك يجاهد في سبيل الله حتى مضى إلى ربه شهيدا يوم اليمامة" [ابن عبد البر]
لم يكابد (١) الرسول والذين آمنوا معه من أحد كما كابدوا من اليهود …
ولم يكن في اليهود أحد أنكى (٢) على دين الله، وأشد أذى لمحمد رسول الله ﷺ من كعب بن الأشرف، وسلام بن أبي الحقيق …
فقد اجتمع في هذين الطاغيتين (٣) من الشر ما تفرق في جميع الأشرار … والتقى عندهما من الخبث ما وزع على سائر الأخباث …
وقد جعلا شغلهما الشاغل الكيد لدين الله …
ونصب العداوة لمحمد رسول الله ﷺ.
فما عقد الرسول صلوات الله وسلامه عليه مع أحد عهدا؛ إلا قاما يحرضانه (٤) على نقضه (٥)، ويحضانه (٦) على نبذه (٧) …
ولا وجدا للإسلام عدوا ساكنا؛ إلا هبا يثيرانه لحربه.
* * *
وكان أولهما شاعرا؛ فأطلق لسانه في أعراض المحصنات؛ القانتات (٨) من نساء المسلمين، وجعل يشهر بهن كاذبا مفتريا …
وكان ثانيهما مفسدا؛ فهب يحزب الأحزاب (٩) ضد المسلمين، ويثير عليهم مشاعر المشركين، ويعد الخطط للغدر بالرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم …
حتى كاد يقتله بإلقاء صخرة عليه؛ لولا أن نبهه جبريل ﵇ إلى ما يحيق (١٠) به من خطر.
فأيقن الرسول الكريم ﷺ ومن معه أن جرثومة (١١) الشر لا يمكن أن تستأصل (١٢) إلا باستئصال هذين الطاغوتين …
وأن دماء الناس لا يمكن أن تحصن إلا بإراقة دمائهما.
* * *
وكان مما أمد الله به نبيه أن أيده بقبيلتي الأوس والخزرج (١٣) …
فكان هذان الحيان من الأنصار؛ يتنافسان في الخير، ويفعلانه …
ويتسابقان في البر ويؤديانه …
ويتصاولان (١٤) تصاول القرنين (١٥) في المآثر، والمفاخر.
فلا تصنع الأوس شيئا فيه رضى لله ورسوله ﷺ إلا قالت الخزرج: لا والله لا ندعهم يتفوقون علينا بهذا الفضل، ويتقدمون علينا بهذا الخير …
فما يزالون يتحينون (١٦) الفرص حتى يأتوا بمثله، أو ربما يربو عليه.
ولا يصنع الخزرج شيئا فيه بر بالإسلام وأهله؛ إلا قالت الأوس مثل قولهم … وفعلت مثل فعلهم.
.
فكان في تنافسهم هذا بركة على الإسلام، وخير للمسلمين.
* * *
وقد أكرم الله الأوس؛ فجعل مصرع عدو الله كعب بن الأشرف على أيدي طائفة من فتيانها؛ فقالت الخزرج:
لا والله لا ندعهم يرجحون علينا بهذا الفضل، ويزيدون علينا به …
وإذا كانوا قد قضوا على كعب بن الأشرف أحد عدوي الإسلام اللدودين؛ فإن عدو الإسلام الآخر سلام بن أبي الحقيق ما يزال حيا …
وسيكون القضاء عليه من نصيبنا؛ إن شاء الله، وأعان.
* * *
استأذنت الخزرج الرسول بأن تندب (١٧) خمسة من فتيانها لقتل عدو الله سلام بن أبي الحقيق فأذن لها …
ثم أمر على الفتية الأخيار الأبرار واحدا منهم؛ هو عبد الله بن عتيك وأوصاهم ألا يقتلوا امرأة ولا وليدا، وألا يلحقوا أذى بهما.
فودعوا الرسول، ومضوا ليقوموا بأجرإ مغامرة عرفها
تاريخ الفداء.
فلنترك لأمير الفرقة الكلام ليروي لنا قصتهم المثيرة …
* * *
قال عبد الله بن عتيك:
ما إن أذن لنا الرسول بالمضي إلى ما ندبنا أنفسنا له؛ حتى يممنا (١٨) وجوهنا شطر أواسط الحجاز حيث كان يقيم سلام بن أبي الحقيق وقومه في حصن لهم …
فلما صرنا قريبا من الحصن؛ ركنا في مكاننا حتى دنت الشمس من مغربها، وطفق أهل الحصن يعودون بمواشيهم من المراعي.
فقلت لأصحابي: اجلسوا في مكانكم؛ فإني منطلق نحو باب الحصن لعلي أستطيع الدخول فيه مع الداخلين …
ثم صاففت (١٩) الناس، ومشيت معهم كأني واحد منهم؛ فلم يفطن لي أحد …
فلما دنوت من الباب تقنعت بثوبي؛ لئلا يتنبه لي بواب الحصن، وجلست كأني أقضي الحاجة …
فلما دخل الناس ولم يبق أحد غيري؛ هتف بي البواب وقال:
يا عبد الله؛ إن كنت تبغي الدخول فادخل؛ فإني أريد أن أغلق الباب …
فدخلت وكمنت (٢٠) غير بعيد منه؛ مستترا بجنح الظلام.
فلما استيقن أنه لم يبق أحد خارج الحصن أغلق الباب، وعلق قلادة المفاتيح على ود … ومضى إلى سكنه.
* * *
أما أنا فمكثت في مكمني، وطفقت أتفحص الحصن، وأتعرف على مسالكه، وأجيل بصري فيه بحثا عن علية (٢١) الرجل …
واهتداء إلى الطريق المؤدية إليها …
فما لبثت أن أثبت مكانه، وعرفت من خلال ضوء المصباح الخافت أن فئة من أصحابه تسمر عنده …
فلما انفض السمار (٢٢) وأطفئ المصباح …
وأيقنت (٢٣) أنه أوى إلى فراشه ودخل في النوم؛ أخذت المفاتيح من الود، ومضيت في عتمة الليل إلى باب قصره الخارجي ففتحته في رفق …
فلما صرت داخل القصر؛ أغلقته علي من الداخل بالقفل حتى لا يدخله أحد.
ثم مضيت إلى الباب الثاني؛ ففعلت به مثل ما فعلته بالباب الأول.
ثم جريت على ذلك … فكنت كلما دخلت بابا أغلقته علي.
وقد حملني على ذلك تقديري بأن القوم إذا تنبهوا لي، أو صرخ فيهم صارخ؛ فإنهم لا يستطيعون الوصول إلي إلا بعد أن أكون قد قتلته.
فلما بلغت علية القصر ألفيتها (٢٤) مظلمة، ووجدته مضجعا بين أهله وأولاده، فلم أعلم أين مكانه بينهم …
فخشيت إن ضربته على الظنة أن أصيب غيره؛ فأخالف وصية الرسول بألا نقتل امرأة ولا وليدا، وأعرض نفسي للهلاك دون طائل …
فبادرت وناديته بكنيته التي كان يناديه بها خواصه؛ فقلت: أبا رافع …
فقال: من هذا؟!.
فعرفت مكانه … وأهويت بسيفي على موضع الصوت، وكنت مضطربا؛ فلم تفعل ضربتي فيه شيئا.
فصاح بأعلى صوته … فخرجت من الحجرة، وعثرت بالمصباح؛ فأخذته بيدي وطرحته بعيدا عن موضعه؛ حتى لا يقوم إليه أحد فيضيئه.
ثم عدت إليه وغيرت صوتي وقلت: ما هذا الصياح يا أبا رافع؟!.
فقال: لأمك الويل … إن في البيت رجلا ضربني بالسيف وتوارى.
فاقتربت منه، وأهويت عليه بضربة أثبت من تلك وأحكم …
فأثرت فيه أثرا بليغا، ولكنه لم يمت.
فأغمدت (٢٥) سيفي في بطنه وضغطت عليه بثقلي كله؛ فصرخ صرخة أيقظت زوجته … فانتزعت سيفي من جسده ولم يكن به حراك.
* * *
استيقظت المرأة على صوت زوجها، وهبت مذعورة … وجعلت تستصرخ (٢٦) …
فهممت أن أهوي عليها بالسيف لولا أني تذكرت أن الرسول قد نهانا عن قتل النساء والأطفال؛ فكففت عنها.
وما هي إلا لحظات حتى استفاق الناس على صراخها، ودبت الحركة في الحصن … فما كان مني إلا أن مضيت أستصرخ الناس وأقول:
الغوث … الغوث … النجدة … النجدة …
فجعلوا يتدفقون نحو العلية وأنا أمضي خارجا …
حتى انتهيت إلى آخر درجة من درجات الحصن، وكنت ضعيف البصر …
فظننت أني بلغت الأرض فوقعت فانكسرت ساقي؛ فعصبت الساق المكسورة بعمامتي، ومضيت أجرها جرا حتى صرت عند رفاقي خارج الحصن.
* * *
أوقد أهل الحصن النيران من كل جهة، وهبوا جميعا من مراقدهم (٢٧)، وانطلقوا يعدون خارج الحصن بحثا عن الذين أغاروا عليهم … أما نحن فكنا كامنين في قناة ماء أسفل الحصن.
فلما يئس القوم من العثور علينا؛ عادوا إلى صاحبهم ينظرون ما حل به.
فقال أصحابي: النجاء … النجاء …
فإن القوم قد كفوا عن طلبنا، وانشغلوا بصاحبهم عنا.
فقلت: لا والله! لا أبرح هذا المكان حتى أعلم أني قتلته.
فقال أحد أصحابي: أنا أذهب فآتيكم بخبره.
ثم مضى حتى دخل في الناس ودنا من الرجل … فرأى امرأته تمضي نحوه وبيدها المصباح وكبار اليهود وراءها يسألونها عما حدث … وعن الرجل الغريب الذي اقتحم حصنهم، وما فعل …
فقالت:
والله لا أدري، ولكني سمعت صوتا غير غريب عني … فلما أصغيت إليه قلت: هذا صوت ابن عتيك؛ غير أني كذبت نفسي وقلت: أين ابن عتيك من هذه الأرض؟!.
ثم أقبلت على زوجها ورفعت المصباح، وحدقت في وجهه …
ثم ارتدت عنه وهي تقول: مات … وإله يهود مات …
فلما سمع ذلك منها قرت عينه، وعاد إلينا وبشرنا.
* * *
عند ذلك؛ احتملني (٢٨) أصحابي، ومضوا بي حتى قدمنا على الرسول صلوات الله وسلامه عليه …
فوجدناه على المنبر يخطب الناس؛ فلما رآنا قال:
(أفلحت (٢٩) الوجوه … أفلحت الوجوه) …
فقلنا: أفلح وجهك يا رسول الله …
وبشرناه بقتل عدو الله.
فلما نزل عن المنبر؛ رأى ما بي؛ فقال:
(لا بأس عليك يا بن عتيك).
ثم قال:
(ابسط رجلك)؛ فبسطتها …
فمسحها؛ فوقفت عليها …
كأنني لم أشك منها قط … (*)
_________
(١) يكابد: يعاني.
(٢) أنكى: أشد خطرا.
(٣) الطاغية: الجبار المتكبر من الناس.
(٤) يحرضانه: يثيرانه.
(٥) نقضه: عدم الوفاء به.
(٦) يحضانه: يرغبان ويحثان.
(٧) نبذه: خلعه.
(٨) المحصنات القانتات: الطاهرات العفيفات القائمات بطاعة الله.
(٩) يحزب الأحزاب: يجمع الناس في فرق وجماعات.
(١٠) يحيق: يحيط.
(١١) الجرثومة: جرثومة كل شيء، أصله ومجتمعه.
(١٢) تستأصل: تقطع.
(١٣) الأوس والخزرج: قبيلتان يمنيتا الأصل ارتحلتا إلى المدينة بعد انهيار سد مأرب واستقرتا فيها وهما تكونان جمهرة الأنصار.
(١٤) يتصاولان: أي يتسابقان.
(١٥) القرنين: المتماثلين.
(١٦) يتحينون الفرص: يترقبون الفرص ويترصدونها.
(١٧) تندب: تدعو.
(١٨) يممنا وجوهنا: توجهنا.
(١٩) صاففت: مشيت معهم في صف واحد.
(٢٠) كمنت: استخفيت في مكان لا يفطن له.
(٢١) العلية: بيت في الطبقة الثانية من الدار.
(٢٢) السمار: المتحدثون ليلا.
(٢٣) أيقنت: اطمأننت.
(٢٤) ألفيتها: وجدتها.
(٢٥) فأغمدت: أدخلته في غمده.
(٢٦) تستصرخ: تنادي وتصرخ.
(٢٧) مراقدهم: مواضع نومهم.
(٢٨) احتملني: حملني.
(٢٩) أفلحت: ظفرت برضى الله ﷿، فازت بالجنة.
مختارات