فقه الإيمان بالله (١٥)
إن الإيمان الحقيقي المتمثل في العمل الصالح هو الذي يعصم النفس البشريةمن اليأس الكافر في الشدة كما يعصمها من البطر الفاجر في الرخاء.
وهو الذي يقيم القلب البشري على سواء في البأساء والنعماء، ويربطه بالله في حاليه.
فلا يتعالى ويتنفج عندما تغمره النعماء.
ولا يتهاوى ويتهافت تحت مطارق البأساء.
بل يشكر عند السراء.
ويصبر عند الضراء.
وفي كل خير.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ» أخرجه مسلم (١).
إن الإيمان الحقيقي يجعل الفرد أمة يقف لأعتى أمة.
فهذا هود - صلى الله عليه وسلم - بعد أن نصح لقوم عاد، ودعاهم إلى الله فلم يؤمنوا، وقف في وجوههم في حسم كامل، وفي تحدّ بين، وفي استعلاء بالحق الذي معه، وثقة بربه الذي آمن به، فقال بعد إصرار قومه على الكفر: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (٥٥) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)} [هود: ٥٤ - ٥٦].
فنواصي جميع الخلق بيده، فلا تتحرك دابة ولا تسكن إلا بإذنه، فلو اجتمعتم كلكم على الإيقاع بي، والله لم يسلطكم علي لم تقدروا، فإن سلطكم فلحكمة أرادها.
إن أصحاب الدعوة إلى الله، وأهل الإيمان في كل زمان ومكان، في حاجة أن يقفوا طويلاً أمام هذا المشهد الباهر العزيز، رجل واحد لم يؤمن معه إلا القليل، يواجه أعتى أهل الأرض، وأغنى أهل الأرض، وأكثر أهل الأرض حضارة، وأشدهم قوة: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (١٥)} [فصلت: ١٥].
فهؤلاء العتاة الجبارون تودد إليهم هود - صلى الله عليه وسلم - وقال لهم: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٢٧)} [الشعراء: ١٢٥ - ١٢٧].
فلما تبين له عنادهم وإصرارهم على الكفر، ومحادة الله ورسوله، والاستهتار بالوعيد، والجرأة على الله، وقف لهم هذه الوقفة الباهرة، لأنه مؤمن يعلم أن ربه معه، وهو الذي أرسله.
ويعلم أن أولئك الجبارين إنما هم من الدواب التي ما من دابة إلا وربه آخذ بناصيتها، فأنى تضره؟.
وماذا تملك هذه الدواب أمام قوة العزيز الجبار؟.
إن الله أهلكهم بما يحتاجون إليه، ولا يستغنون عنه لحظة، إنه الهواء الذي أرسله عليهم، فعاقبهم الله بريح شديدة، عقوبة تناسب قوتهم التي اغتروا بها.
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (١٦)} [فصلت: ١٦].
فدمرتهم وأهلكتهم فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم.
إن المؤمنين حقاً هم الذين يجدون حقيقة ربهم في نفوسهم، ويشعرون أنه معه، وأنهم يرونه وهو يراهم.
وبهذا الإحساس والشعور يملكون أن يقفوا بإيمانهم في استعلاء أمام قوى الجاهلية الطاغية من حولهم، أمام القوى المادية كلها: قوة المال.
وقوة الصناعة.
وقوة العلم البشري.
وقوة الأنظمة والأجهزة.
وقوة الخبرات والمخابرات.
يقفون أمام هذه القوى، ويرونها حقيرة ضعيفة هزيلة، وهم مستيقنون أن ربهم آخذ بناصية كل دابة، وأن الناس كل الناس وما صنعوا إن هم إلا دابة من الدواب المملوكة لله، بل كل ما في السموات والأرض عبيد لله لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعاً ولا ضراً، وهم جميعاً في قبضته: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٦)} [هود: ٥٦].
إن العهد الأكبر الذي تقوم عليه العهود كلها هو عهد الإيمان.
والميثاق الأكبر الذي تجتمع عليه المواثيق كلها هو ميثاق الوفاء بمقتضيات هذا الإيمان كما قال سبحانه: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢)} [الرعد: ١٩ - ٢٢].
أما جزاء الوفاء بالعهد والميثاق فهو: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤)} [الرعد: ٢٣ - ٢٤].
وعهد الإيمان قسمان:
قديم.
وجديد.
قديم مع الفطرة البشرية، فكل مولود يولد على الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وهو الميثاق المأخوذ على الذرية في ظهور بني آدم كما قال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (١٧٢)} [الأعراف: ١٧٢].
ثم هو جديد مع الرسل الذين بعثهم الله لا لينشئوا عهد الإيمان، ولكن ليجددوه ويذكروا به، ويفصلوه ويبينوا مقتضياته، من الدنيوية لله وحده، والإعراض عما سواه، مع العمل الصالح، والسلوك الحسن، والتوجه بكل ذلك إلى الله وحده كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: ٣٦].
(١) أخرجه مسلم برقم (٢٩٩٩).
مختارات

