فقه الصبر (٣)
والله عزَّ وجلَّ لم يجعل له سلطاناً على العباد، وإنما هم سلطوه على أنفسهم بطاعته، ودخولهم في جنده وحزبه، فصار سلطانه عليهم، بأن تمكن منهم وتلاعب بهم، مع ضعفه وكونه لا يملك سلطان الحجة، وإنما دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان.
الحالة الثالثة: أن تكون الحرب سجالاً ودولاً بين الجندين، فتارة له.
وتارة عليه.
وهذه حال أكثر المؤمنين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، عسى الله أن يتوب عليهم.
وهذه الأحوال الثلاث هي أحوال الناس في الصحة والمرض، فمن الناس من تقهر قوته داءه، فيكون السلطان للقوة.
ومنهم من يقهر داؤه قوته، فيكون السلطان للداء.
ومنهم الحرب بين دائه وقوته سجالاً، فهو متردد بين الصحة والمرض.
وتكون الأحوال يوم القيامة موازنة لهذه الأحوال الثلاث سواء بسواء.
فمن الناس من يدخل الجنة، ولا يدخل النار.
ومنهم من يدخل النار، ولا يدخل الجنة.
ومنهم من يدخل النار، فإذا تطهر من الذنوب دخل الجنة.
والصبر باعتبار متعلقه ثلاثة أقسام:
أحدها: صبر على الأوامر والطاعات حتى يؤديها.
الثاني: صبر عن المنهيات والمخالفات حتى لا يقع فيها.
الثالث: صبر على الأقدار والأقضية حتى لا يتسخطها.
وهذا كله متعلق بطرفين:
طرف من جهة الرب سبحانه.
وطرف من جهة العبد.
فأما الذي من جهة الرب، فالله تعالى له على عبده حكمان:
حكم كوني قدري.
وحكم شرعي ديني.
فالكوني متعلق بخلقه، والشرعي متعلق بأمره، وهو سبحانه له الخلق والأمر.
وحكم الله الديني الشرعي الطلبي نوعان:
فالمطلوب إن كان محبوباً لله سبحانه فالمطلوب فعله سواء كان واجباً أو مستحباً، ولا يتم ذلك إلا بالصبر.
وإن كان المطلوب مبغوضاً له فالمطلوب تركه سواء كان محرماً أو مكروهاً، وذلك كذلك لا يتم إلا بالصبر.
فهذا حكم الله الديني الشرعي، فمرجع الدين كله إلى هذه الثلاث:
فعل المأمور.
وترك المحظور.
والصبر على المقدور.
وأما الذي من جهة العبد، فإنه لا ينفك عن هذه الثلاث ما دام مكلفاً، ولا تسقط عنه هذه الثلاث حتى يسقط عنه التكليف، فكما لا تستوي السنبلة إلا على ساقها، فكذلك عبودية الأمر والنهي والقدر لا تقوم ولا تستوي إلا على ساق الصبر.
وأكمل أنواع الصبر الصبر المتعلق بالتكليف، وهو الأمر والنهي، فهو أفضل من الصبر على مجرد القدر.
فإن هذا الصبر يأتي به البر والفاجر، والمؤمن والكافر، فلا بدَّ لكل أحد من الصبر على القدر اختياراً أو اضطراراً.
وأما الصبر على الأوامر والنواهي فصبر الرسل وأتباعهم، وأعظمهم اتباعاً أصبرهم في ذلك.
وكل صبر في محله وموضعه أفضل.
فالصبر عن الحرام في موضعه أفضل.
والصبر على الطاعة في محلها أفضل.
والطاعات ترفع الدرجات.
والمصائب تحط السيئات.
مختارات