فقه الصبر (٢)
وينقسم الصبر باعتبار محله إلى قسمين:
بدني.
ونفسي.
وكل منهما نوعان: اختياري واضطراري.
فهذه أربعة أقسام:
فالصبر البدني: إما اختياري كتعاطي الأعمال الشاقة على البدن اختياراً كحمل الأشياء الثقيلة ونحوها.
وإما اضطراري كالصبر على ألم الضرب والمرض، والجراحات، والحر والبرد ونحو ذلك.
أما الصبر النفسي فهو إما اختياري كصبر النفس عما لا يحسن فعله شرعاً ولا عقلاً كالفواحش والرذائل ونحوها.
وإما اضطراري كصبر النفس عن محبوبها قهراً إذا حيل بينها وبينه.
وهذه الأقسام مختصة بنوع الإنسان دون الملائكة والبهائم.
أما الملائكة فلكمالها، وأما البهائم فلنقصانها، فإنها تشارك الإنسان في نوعين منها، وهما صبر البدن والنفس الاضطراريين، ويمتاز الإنسان عنها بالنوعين الاختياريين.
أما الجن فهم مكلفون بالصبر على الأوامر، والصبر عن النواهي كما كلفنا نحن بذلك.
لكن ما كان من لوازم النفس كالحب والبغض، والإيمان والكفر، والموالاة والمعاداة، فنحن وهم مستوون فيه.
وما كان من لوازم البدن كغسل الجنابة، وغسل الأعضاء في الوضوء، والاستنجاء وغسل الحيض، ونحو ذلك، فلا تجب مساواتهم لنا في تكلفه، وإن تعلق بهم ذلك على وجه يناسب خلقتهم وحياتهم.
وأما الملائكة فلم يبتلوا بهوى يحارب عقولهم، ولا بشهوة تزاحم عبادتهم، بل العبادة والطاعة لهم كالنفس لنا.
فلا يتصور في حقهم الصبر الذي حقيقته ثبات باعث الدين والعقل في مقابلة باعث الشهوة والهوى، وإن كان لهم صبر يليق بهم، وهو ثباتهم وإقامتهم على ما خلقوا له من غير منازعة هوى أو شهوة أو طبع.
والمخلوقات ثلاثة أقسام:
فقد خلق الله الملائكة عقولاً بلا شهوات.
وخلق البهائم شهوات بلا عقول.
وخلق الإنسان وجعل له عقلاً وشهوة.
والإنسان إذا غلب باعث الهوى والشهوة صبره التحق بالبهائم.
وقد خلق الله عزَّ وجلَّ الإنسان في ابتداء أمره ناقصاً، لم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه، ثم تظهر فيه شهوة اللعب، ثم شهوة النكاح، ثم بعد ذلك يستعد لقوة الصبر.
وعند أول سن التمييز يلوح عليه إشراق نور الهداية، وينمو ذلك على التدريج إلى سن البلوغ، كما يبدو خيط الفجر ثم يتزايد ظهوره.
وكل هداية قاصرة غير مستقلة بإدراك مصالح الآخرة ومضارها، بل غايتها تعلقها ببعض مصالح الدنيا ومفاسدها.
فإذا طلعت عليه شمس النبوة والرسالة، وأشرق عليه نورها، رأى في ضوئها تفاصيل مصالح الدارين ومفاسدهما، فتلمح العواقب، ولبس لامة الحرب، وبدأت في قلبه الحرب بين داعي الطبع والهوى، وداعي العقل والهدى.
والمنصور من نصره الله.
والمخذول من خذله الله.
ولا تضع الحرب أوزارها حتى ينزل في إحدى المنزلتين، ويصير إلى ما خلق له في إحدى الدارين.
وباعث الدين بالإضافة إلى باعث الهوى له ثلاثة أحوال:
الأول: أن يكون القهر والغلبة لداعي الدين على داعي الهوى، وهذا إنما يصل إليه بدوام الصبر، وأهل هذه الرتبة هم المنصورون في الدنيا والآخرة، وهم الذين نالوا معية الله مع الصابرين، وهم الذين جاهدوا في الله حق جهاده، وخصهم الله بهدايته دون غيرهم.
الثانية: أن تكون القوة والغلبة لداعي الهوى على داعي الهدى، فيستسلم اليائس للشيطان وجنده، فيقودونه حيث شاؤوا، فإما أن يصير من جندهم وأتباعهم، وهذه حال العاجز الضعيف، وإما أن يصير الشيطان من جنده، وهذه حال الفاجر القوي المتسلط، والمبتدع الداعي المتبوع، وهؤلاء هم الذين غلبت عليهم شقوتهم، واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، فلهم النار يوم القيامة: {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (١٠٦) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (١٠٧) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (١٠٨)} [المؤمنون: ١٠٤ - ١٠٨].
وإنما صاروا إلى هذه الحال لما أفلسوا من الصبر والإيمان والتقوى.
وأصحاب هذه الحال أنواع شتى:
فمنهم المحارب لله ورسوله، الساعي في إبطال ما جاء عن الله ورسوله، يصد عن سبيل الله ويبغيها عوجاً.
ومنهم المعرض عن ما جاء به الرسول، المقبل على دنياه وشهواتها فقط.
ومنهم المنافق ذو الوجهين، الذي يأكل بالكفر والإسلام.
ومنهم الماجن المتلاعب، الذي قطع أنفاسه بالمجون واللهو واللعب.
ومنهم من يقول ليس الله محتاجاً إلى صلاتي وصيامي وعبادتي، وأنا لا أنجو بعملي، والله غفور رحيم.
ومنهم من يقول ترك المعاصي استهانة بعفو الله ومغفرته.
ومنهم من يقول ماذا تقع طاعتي في جنب ما قد عملت من الكبائر.
ومنهم من يرعى في وادي المعاصي، ويقول سوف أتوب.
إلى غير ذلك من أصناف الجاهلين المفترين، الذين صارت عقولهم في أيدي شهواتهم، فعقله مع الشيطان كالأسير في يد الكافر، يستعمله في رعي الخنازير، وعصر الخمر.
وهو بقهره عقله وتسليمه إلى أعدائه بمنزلة رجل قهر مسلماً، وباعه للكفار وسلمه إليهم، وجعله أسيراً عندهم.
فإنه لما أذل سلطان الله الذي أعزه به ورفع به قدره، وسلمه في يد أبغض أعدائه إليه وجعله أسيراً له، سلط الله عليه من كان حقه هو أن يتسلط عليه، فجعله تحت قهره وسلطانه، يسخره حيث شاء ويسخر منه، فصار بمنزلة من سلم نفسه إلى أعدى عدو له يسومه سوء العذاب، فلما ترك مقاومته واستسلم له سلط عليه عقوبة له كما قال سبحانه عن الشيطان: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠)} [النحل: ٩٩، ١٠٠].
مختارات