فقه الصبر (٤)
والصبر قسمان:
قسم مذموم.
وقسم محمود.
فالمذموم: الصبر عن الله وعن إرادته ومحبته وسير القلب إليه، وهذا يتضمن تعطيل كمال العبد بالكلية، وهذا كما أنه أقبح الصبر فهو أعظمه وأبلغه، فإنه لا صبر أبلغ من صبر من يصبر عن محبوبه الذي لا حياة له بدونه البتة.
فالصبر عن الله جفاء، ولا جفاء أعظم ممن صبر عن معبوده وإلهه ومولاه الذي لا مولى له سواه.
وأما الصبر المحمود فنوعان:
صبر بالله.
وصبر لله.
فالأول: كقوله سبحانه: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: ١٢٧].
والثاني: كقوله سبحانه: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: ٤٨].
فيصبر مستعيناً بالله من أجل مرضاة الله.
وكل إنسان لا بدَّ أن يصبر على بعض ما يكره إما اختياراً وإما اضطراراً.
فالكريم يصبر اختياراً لعلمه بحسن عاقبة الصبر، وأنه يحمد عليه، ويذم على الجزع، وأن المقدر لا حيلة في دفعه، وما لم يقدر لا حيلة في تحصيله.
فإذا كان آخر الأمر الصبر، فما أحسن أن يستقبل الأمر في أوله بما يستدبره الأحمق في آخره.
وأما اللئيم فإنه يصبر اضطراراً، فالكريم يصبر في طاعة الرحمن، واللئيم يصبر في طاعة الشيطان.
فاللئام أصبر الناس في طاعة أهوائهم وتحصيل شهواتهم، وأقل الناس صبراً في طاعة ربهم.
فيصبر اللئيم على البذل في معصية الرحمن وطاعة الشيطان أتم صبر، ولا يصبر على البذل في طاعة الله في أيسر شيء.
ويصبر على تحمل المشاق في مرضاة الشيطان، ولا يصبر على أدنى المشاق في مرضاة الله.
والإنسان لا يستغني عن الصبر في حال من الأحوال.
فإنه بين أمر يجب عليه امتثاله.
ونهي يجب عليه اجتنابه.
وقدر يجري عليه.
ونعم يجب شكر المنعم عليها.
وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه فالصبر لازم له إلى الممات.
وكل ما يلقاه العبد في هذه الدار لا يخلو من أمرين:
أحدهما: يوافق هواه ومراده.
والآخر يخالف هواه ومراده.
وهو محتاج إلى الصبر في كل منهما.
أما النوع الموافق لغرضه كالصحة والسلامة والجاه والمال، وأنواع الملاذ المباحة، وهو أحوج شيء إلى الصبر فيها، حتى لا يركن إليها ولا يغتر بها، ولا تحمله على البطر والأشر، والفرح المذموم، الذي لا يحب الله أهله.
وحتى لا ينهمك في نيلها، ويبالغ في استقصائها، فإنها تنقلب إلى أضدادها، فمن بالغ في الأكل والشرب والجماع انقلب ذلك إلى ضده، فاعتل وحرم الأكل والشرب والجماع.
وعليه أن يصبر على أداء حق الله فيها، ولا يضيعه فيسلبها، وأن يصبر عن صرفها في الحرام، فلا يمكِّن نفسه من كل ما تريده منها، فإنها توقعه في الحرام ولا بدّ.
والبلاء يصبر عليه المؤمن والكافر، ولا يصبر على العافية إلا الصديقون، وإنما كان الصبر على السراء شديداً؛ لأنه مقرون بالقدرة.
ولذا حذر الله عباده من فتنة المال والأزواج والأولاد بقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٩)} [المنافقون: ٩].
وقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤)} [التغابن: ١٤].
وليس المراد بالعداوة هنا عداوة البغضاء والمحادة، بل إنما هي عداوة المحبة الصادة للآباء عن الهجرة والجهاد، وتعلم العلم، والصدقة، وغير ذلك من أمور الدين، وأعمال البر المختلفة.
وأما النوع الثاني المخالف للهوى فلا يخلو:
إما أن يرتبط باختيار العبد كالطاعات والمعاصي.
أو لا يرتبط أوله باختياره كالمصائب، أو يرتبط أوله باختياره، ولكن لا اختيار له في إزالته بعد الدخول فيه.
فأما ما يرتبط باختياره وهو جميع أفعاله:
فأما الطاعة فالعبد محتاج إلى الصبر عليها؛ لأن النفس بطبعها تنفر عن كثير من العبودية؛ لما في طبعها من الكسل وإيثار الراحة، والميل إلى الشهوات، ومخالطة أهل الغفلة والشح والبخل.
فلا يكاد العبد يفعلها مع هذه الأمور، وإن فعلها مع ذلك كان متكلفاً، فيحتاج العبد هاهنا إلى الصبر على الطاعات قبل الشروع فيها بتصحيح النية والإخلاص، وتجنب دواعي الرياء والسمعة، وعقد العزم على إعطاء العبادة حقها.
ويصبر بعد الشروع فيها عن دواعي التقصير والتفريط فيها، وعلى حضور القلب بين يدي المعبود، وأن لا ينساه في أمره.
فليس الشأن في فعل المأمور فقط، بل الشأن كل الشأن أن لا ينسى الآمر حال الإتيان بأمره، بل يكون مستصحباً لذكره في أمره.
فلا يعطله حضوره مع الله بقلبه عن قيام جوارحه بعبوديته، ولا يعطله قيام الجوارح بالعبودية.
عن حضور قلبه بين يديه سبحانه.
وأما الصبر بعد الفراغ من العمل، فأن يصبر عن الإتيان بما يبطل أعماله كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٢٦٤)} [البقرة: ٢٦٤].
وكذلك يصبر عن رؤية الطاعة والعجب بها، والتكبر والتعظم بها، فهذا أضر عليه من كثير من المعاصي الظاهرة.
ويصبر عن نقلها من ديوان السر إلى ديوان العلانية.
فلا يظن العبد أن بساط الصبر يطوى بعد الفراغ من العمل.
وأما الصبر عن المعاصي الظاهرة والباطنة فأمره ظاهر، وأعظم ما يعين عليه قطع المألوفات.
ومفارقة الأعوان عليها.
وقطع العوائد.
فإذا انضافت الشهوات إلى العادات تظاهر جندان من جند الشيطان، فلا يقوى باعث الدين على قهرهما مع ضعفه.
القسم الثاني: ما لا يدخل تحت اختيار العبد، وليس للعبد حيلة في دفعه كالمصائب التي لا صنع للعبد فيها كموت من يعز عليه، وسرقة ماله ونحو ذلك وهو نوعان:
ما لا صنع للآدمي فيه.
وما أصابه من جهة الآدمي.
فالأول للعبد فيه أربع مقامات:
أحدها: مقام العجز والجزع، والشكوى والتسخط، وهذا ما لا يفعله إلا أقل الناس عقلاً وديناً ومروءة.
الثاني: مقام الصبر.
الثالث: مقام الرضا به، وهو أعلى من مقام الصبر.
الرابع: مقام الشكر، وهو أعلى من مقام الرضا، فإنه يشهد البلية نعمة، فيشكر المبتلى عليها.
وأما النوع الثاني، وهو ما أصابه من قبل الناس فله فيه ما سبق، ويضاف إليها أربعة أخر:
أحدها: مقام العفو والصفح.
الثاني: مقام سلامة القلب من إرادة التشفي والانتقام، وفراغه من ألم مطالعة الجناية في كل وقت.
الثالث: شهود القدر، وأنه وإن كان ظالماً بإيصال هذا الأذى إليك، فالذي قدره عليك وأجراه على يد هذا الظالم ليس بظالم.
وأذى الناس مثل الحر والبرد لا حيلة في دفعه، فالكل جار بقدر الله وإن اختلفت طرقه وأسبابه.
الرابع: مقام الإحسان إلى المسيء، ومقابلة إساءته بإحسانك، وفي هذا المقام من الفوائد والمصالح ما لا يعلمه إلا الله.
القسم الثالث: ما يكون وروده باختياره، فإذا تمكن منه لم يكن له اختيار ولا حيلة في دفعه كالتعرض لأسباب الأمراض والآلام التي لا حيلة في دفعها بعد مباشرة أسبابها كشرب المسكرات، وتناول المخدرات، وأكل السموم ونحو ذلك.
فهذا كان فرضه الصبر عنه في أوله، فلما فاته بقي فرضه الصبر عليه في آخره، وأن لا يطيع داعي نفسه وهواه.
والدواء النافع لهذا الداء وغيره الصبر والتقوى كما قال سبحانه: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦)} [آل عمران: ١٨٦].
فإذا صبر لله تعالى، وندم على ما تعاطاه من السبب المحظور، أثيب على صبره؛ لأنه جهاد منه لنفسه، وهو عمل صالح يؤجر عليه.
وأما عقوبته على ما تولد منه فإنه يستحق العقوبة على السبب وما تولد منه كما يعاقب السكران على سكره، وعلى ما جناه في حال سكره.
مختارات