المعلّم.. ذلك الإنسان
رآني مدير مدرستي وأنا أعرج في ساحة المدرسة، فأقبل إليّ وسألني عن سبب ذلك العَرَج، فرفعت قدمي لأريه ثؤلولا اختار بطن القدم ليستقرّ فيه!
كان ألم ذلك الثؤلول شديداً، خاصّة عندما أمشي، لذلك لم أكن أستطيع أن أسير باعتدال.. رأيت علامات التوجّع ظاهرة على وجهه، رسم ألمي على ملامحه خارطة حزن..
كان الأستاذ إبراهيم (مدير ابتدائيّة السعوديّة بتبوك عام 1404هـ) ذا شخصيّة صارمة، وملامح صخريّة تستعصي على الابتسامة، ومع ذلك فقد تحوّل معي ومع أخي إلى كتلة من الحنان والعطف بسبب أنّنا كنّا يتيمين! ولا أنسى أنّه كان يعاقب المتأخرين عن الطابور، ويستثنينا، وكان إذا ما سمع في فصلي ضوضاء يدخل بعينين تنبعث عنهما شدّة الحزم، فإذا ما اكتشف أنّي أنا مصدر الضوضاء عادت ملامح الأب إلى وجهه، وحلّ المسألة بشيء من اللطف!
أخذ يتأمّل الثؤلول وكأنّه في قلبه ثم أوصاني بأبوّة: إذا ذهبت لتنام الليلة فقل لأمّك أن تقطّع بصلة على هيئة شرائح، ثم تحمّر تلك الشرائح على النار، وبعد ذلك تضعها على قدمك وتلفّها.. وستشعر بفرق كبير، كرر هذا مرّتين في اليوم وستشفى بإذن الله..
عدت إلى البيت وأخبرت والدتي بعلاج المدير، فسارعت بعمل ذلك لي، ولا أظن أن ذلك الثؤلول صمد لأكثر من يومين، كنت عندما تضع أمّي شرائح البصل أشعر بالألم وهو يغادر قدمي وكأن البصل يمتصّه امتصاصاً!
وأتساءل الآن: هل كان هناك تعميم من وزارة التعليم يقضي بأن يتحوّل مديرو المدارس إلى آباء حقيقيين، يعتصرون ألماً لأوجاع طلابهم؟ أم أن الإنسان الذي يسكن قلب الأستاذ إبراهيم هو من أمره بذلك الإحسان والعطف والذي مازلت أحتفظ به في خانة من قلبي لا يمكن للنسيان أن يتسلل إليها.. هذه ثلاث وثلاثون سنة مرّت على تلك الشرائح، وتلك الوصيّة الطبيّة وما زلت أتذكر ملامح الوجع الصادق في وجه ذلك الإنسان..
لقد مات!
في متوسّطة الأبناء الثالثة بتبوك في بداية عام 1410هـ وكنت وقتها في الأولى المتوسّطة، دخل علينا الأستاذ توفيق في الحصّة الأولى، وكان الحزن يضيف على وجهه الكهل، وشعرات لحيته البيضاء شيئاً من الرهبة والخشوع، صَمَتَ الفصل منتظراً شيئاً سيقوله الأستاذ توفيق..
وبصوت هادئ مبحوح، عزّانا في وفاة الطالب " علي صويلح " شعرت لحظتها أن هذا الاسم من موجودات ذاكرتي، ولكنّي نسيت للحظة صاحبه، شعرت بيد داخل تلافيف مخّي تبحث بين الأوجه المتكدّسة، تريد العثور على الوجه الخاص بعلي صويلح رحمه الله، وفجأة دهمني شيء لا أنسى وقعه، لقد وصلت إلى صورته! إنني أعرفه جيدا، صاحبي في الابتدائيّة، وهو من طلاب الفصل المجاور، كان ولداً طيباً جداً..
شعرت بغرابة هذا الشيء الذي اسمه الموت، إحساسي بالموت تلك اللحظة كان رماديّا، كان شيئاً صلداً كالجدار، كان كالهوّة السحيقة! لا أذكر أنّي شعرت بذلك الشعور عندما مات أبي وأنا في السادسة من عمري، أو عندما مات جدّي وأنا في الثانية الابتدائية! يبدو أنّي نضجت لحظتها ووعيت معنى الموت!
رفعت رأسي، فإذا بالأستاذ توفيق كما هو، حزن خافت قد تخلل مسامات وجهه الصّبَوح، وكأنّ الذي مات أحد أبنائه..
شيخ في الستين من عمره، لا شك أن الذين ماتوا من أقاربه ومعارفه بالعشرات، كيف استطاع أن يحزن على طالب لا أظنّه يعرفه، خاصّة ونحن في أوائل أيام الدراسة؟
هل هناك نظام يفرض على المعلّم أن يحزن على وفاة أحد تلاميذه؟ وأن يقتطع من حصّته دقائق ليعزّي أبناءه الطلاب في وفاة زميلهم؟
أم أنّ الإنسان الذي يستوطن قلب المعلّم هو من يفرض ويحتّم مثل هذه الأنظمة الموغلة في الإنسانيّة؟
ليس هناك كاميرات ترصد أدق تفاصيل الحزن وهي تتبعثر في وجه ذلك الستّيني؟ حتى نضع التمثيل احتمالاً من احتمالات ذلك التأثر..
تُرى كم من الإنسانيّة كنّا سنخسرها لولا أولئك الرجال الذين لم يكتفوا بتعليمنا العلم فحسب، بل علمونا فوق ذلك الإحساس، والحب، والحنان..
زيارة مفاجئة!
أخبرني ابن خالتي أنّه خرج من مسجدهم ذات يوم فوجد أستاذا درّسه قبل سنوات، فسلّم عليه بحرارة، وتساءلا عن أخبار بعضهما، وقد كان ذلك الأستاذ قبل ذلك يهتم بعقد علاقة حفظ وفهم واهتمام بين ابن خالتي والقرآن الكريم..
حاول ابن خالتي أن يقنع أستاذه بمصاحبته ليرتشف معه فنجان قهوة في منزل والده، فأبى الأستاذ، ثم كانت المفاجأة، قال له ذلك الأستاذ: إنما جئت إلى " تبوك " للسلام عليك فقط، وأنا الآن سأعود إلى مدينتي!
هكذا.. يقتطع من وقته، وجهده، وراحته جزءاً ثميناً ليطمئن على قلب تلميذ زرع فيه قبل سنوات حب القرآن، والانتماء لمعاني المصحف.. وليقول له: أنت مهم عندي لما في قلبك من قرآن، فحافظ على أهميّتك..
ما هي كميّة السلام التي تعمر قلوب أولئك العظماء؟ ما اسم ذلك العنصر الذي انبعثت مادّته في قلوبهم فجعلتهم يتألمون، ويهتمّون، ويعيشون هموم أبنائهم الطلاب؟
إن هذا الشعور الإنساني لا يمكن أن يخضع لاختبار، أو أن يتمّ الحصول عليه بترشيح؟ أو أن يدرَّس في جامعة ما.. إنّه يأتي هكذا، ويتشكّل هكذا، وينضج هكذا.. من الله..
التعليم والمعلّم هما الوعاءان اللذان تتركّز فيهما الرحمة والإنسانيّة، إذ أن الظرف الأنسب لتكون إنسانا هو أن تعيش مع الإنسان في مراحله الأولى، الإنسان قبل التوحّش، والطالب في جميع مراحله الدراسية هو المادّة الخام للإنسان قبل أن تحتوشه الشياطين، لهذا السبب كان المعلّم من أكثر البشر إنسانيّة! كيف لا، وهو يتعاطى مع كائنات إنسانيّة بحتة؟
شيء مقدّس!
أخبرني زميلي أنّه وفي رحلة علاجيّة إلى ألمانيا، حصل تجاهه اشتباه خاطئ، فقررت سلطات المطار احتجازه هو وأخوه على قيد التحقيق، كانت معاملة الشرطة الألمانيّة غاية في الفظاظة والشدّة، وبعد دقائق وهما في غرفة الاحتجاز دخل عليهما أحد الضباط وطلب هويّاتهما، فكان مما قدّماه للضابط، البطاقات التي توضّح أن مهنتهما التعليم، قال زميلي إن ذلك الضابط تغيّرت معاملته، وانخفض صوته، واعتذر منهما، ثم جاء بعض رجال الأمن وقدّموا الاعتذار الشديد لهما! سأله زميلي عن سبب التغيّر المفاجئ في المعاملة فأخبره أن المعلّم شيءٌ مقدّس في ألمانيا!
ليس هذا في ألمانا فحسب، كل دول العالم الناهضة تجعل التعليم من أولى أولوياتها، وتعلم جيّداً أن المعلّم هو صانع الحضارة، ومنتج التنمية، وأن ما تصرفه على التعليم اليوم تجنيه غداً، فالمعلّم العظيم ينتج جيلاً عظيماً، والمعلّم الذي أهلكته الأنظمة، وحاصرته التعاميم، وأضعفت هيبته الإجرائيّات المعقدة سيُخرج جيلاً هزيلاً..
المعلّم هو المشكّل الأهم لتصوّرات الجيل، وما لم يعط ما يستحقّه من احترام وهيبة وتقدير، فسيتشّكل الجيل وفق لمسات يد مرتعشة، وقلب يشعر أن هناك أشياء يراد لها أن تنهكه، وأن تثير الشكوك حوله، وأن تشير إليه بتهمة الخيانة!
المعلّم إذا أعطي حقّه، صار التعليم هو همّه، وإن نزع حقّه، صار هذا الحق المنزوع هو همّه وغمّه وأحلامه وأحاديثه الخافتة!
لماذا نحوّل ذلك القلب النابض إلى قطعة خزف، ونتعامل معه وكأنّ التعليم مجرد وظيفة، لا رسالة، ومهمّة نبيلة؟
لأنّه إنسان..
رأيت معلماً ينحني باتجاه الأرض، ويربط بيديه الحانيتين حبل جزمة تلميذه المعاق!
ورأيت من يدفع من حُرّ ماله ليشتري الهدايا الثمينة، حتى يثبّت بها معاني التميّز والتفوّق في قلوب طلابه ذوي النباهة الخاصة..
ورأيت من يرعى موهبة طالبه الأديب، ويثني عليه، ويهديه الكتب، حتى ينمّي زهرة الأدب في نفسه، والتي رأى برعمها الصغير ذات توهّج!
وعلمت عمّن يسهر الليل ليكتب لطلابه عصارة الكتب، ويسهّل لغة المراجع، لأنّه ظنّ أن هناك شيئا يجب أن يعلموه، ومقدمات يجب أن يعوها قبل الدلوف إلى تفاصيل المنهج!
وهناك من يخرج من بيته إلى المستشفى ليزور طالبه المرقّد، وآخر يبكي على طالبه المتوفى، وثالث يقف أمام طالبه الصغير بتواضع ويقول له: آسف أخطأت بحقّك!
وهذا معلم يجلس يعلّم طلابه فنون التصوير، وفنيات الإخراج، ويرعى مواهبهم بحدب وفنّ..
وذاك يستقطع من وقته ليقف في ممر المدرسة يسمّع لبعضهم آيات من القرآن الكريم، لم تطالبه الوزارة أن يحفّظها تلاميذه.. ولكن أمره حسّ المربي الذي يعلم أن القرآن نور القلب، وتهذيب الخلق أن يفعل ذلك..
وأعلم أن من المعلمين من يتحدث لطلابه عن بر الوالدين حتى تدمع أعينهم البريئة، ويقررون التغيّر، دون أن يكون في مفردات تلك المادّة شيئا يقول له (تحدّث عن البرّ) وأتساءل: لو علم الأب أن سبب تغيّر ابنه هو هذا المعلّم، فهل سيتحدث في المجالس عن المعلّم بالطريقة المستهجنة التي تشوّه صورة ذلك الإنسان..
بل هناك من الآباء من ترك عادة التدخين، وغيرها من العادات السيئة، بسبب نصيحة من ابنه أودعها أذنه معلّم مخلص، يدرّس مادّة لا علاقة لها بمادّة النيكوتين!
وأعرف، وأعلم، وأسمع.. وأنت كذلك عن هذا الإنسان الذي لولا الله ثم اجتهاده، واهتمامه، وإنسانيّته، لم تنهض أمّه، ولم يتطوّر شعب، ولم يتشكّل واقع..
ليس هناك نظام في العالم يستطيع أن يراقب المعلّم في في فصله وهو يودع عقول طلابه الصغار مئات المبادئ والمـُثُل كل يوم، وليس هناك قرار يستطيع التسلل إلى حروف المعلّم ليعلم كيف خرجت، وعن ماذا تحدثت، ولماذا قالت ما قالت..
المعلّم ليس موظفا تنتهي عمليّة تقييمه ومتابعته ببرنامج حضور وانصراف، ومشرف ممر يلحظ دخوله وخروجه.. وتعميم يوقّع عليه في الصباح ليتغيّر به في المساء، المعلّم هو المسؤول عن عجينة الأرواح الغالية، وعن صناعة أرواح الجيل القادم، وليست لغة التشكيك هي التي تجعله يفعل ذلك بجدارة واهتمام وحب وإخلاص، فقط لغة الثقة، وتعزيز المكانة، وإعطاء الصلاحيات التي تليق به هي ما يفعل ذلك وزيادة..
المعلم هو الإنسان الوحيد الذي تتاح له من الفرص لخيانة الأمانة ما لا تتاح لغيره! هناك إمكانيّات كبيرة يستطيع من خلالها أن يخون الأمانة، لو أراد! ولكنّه دائماً وأبداً لا يريد ذلك.. لأنّه إنسان!
مختارات