باب ما ورد في خلق آدم عليه السلام (٤)
وقوله تعالى: ﴿فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا﴾ [البقرة: ٣٦] أي: عن الجنة ﴿فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ﴾ [البقرة: ٣٦] أي: من النعيم والنضرة والسرور إلى دار التعب والكد والتنكد، وذلك بما وسوس لهما وزيَّنه في صدورهما، كما قال تعالى: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾ [الأعراف: ٢٠] يقول: ما نهاكُما عن أكل هذه الشجرة إلا أن تكونا مَلَكين أو تكونا من الخالدين، أي: لو أكلتُما منها لصرتُما كذلك.
﴿وَقَاسَمَهُمَا﴾ [الأعراف: ٢١] أي: حلف لهما على ذلك ﴿إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ [الأعراف: ٢١] كما قال في الآية الأخرى: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى﴾ [طه: ١٢٠] أي: هل أدلُّك على الشجرة التي إذا أكلتَ منها حصلَ لك الخلدُ فيما أنت فيه من النعيم، واستمرَّ لك مُلْكٌ لا يبيدُ ولا يَنقضي، وهذا من التغرير والتزوير، والإخبار بخلاف الواقع.
والمقصودُ أنَّ قوله شجرة الخلد التي إذا أكلتَ منها خُلِّدْتَ، وقد تكونُ هي الشجرةُ التي قالَ الإمامُ أحمد: حدَّثنا عبدُ الرحمن بن مَهْدي، حدَّثنا شُعبةُ، عن أبي الضَّحَّاك، سمعتُ أبا هريرة يقول: قال رسول اللَّه ﷺ: "إن في الجنة شجرةً يسيرُ الراكبُ في ظلِّها مئةَ عام لا يقطعها، شجرةُ الخلد".
وكذا رواه أيضًا: عن غندر وحجَّاج، عن شعبة.
ورواه أبو داود الطيالسي في "مسنده" عن شعبة أيضًا به.
قال غُنْدر: قلت لشعبةَ: هي شجرةُ الخلد؟ رواه: ليس فيها "هي".
تفرَّد به الإمامُ أحمد.
وقوله: ﴿فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾ [الأعراف: ٢٢] كما قالَ في "طه": ﴿فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾ [طه: ١٢١] وكانت حواء أكلتْ من الشجرة قبل آدمَ، وهي التي حدَتْه (١) على أكلها، واللَّه أعلم.
وعليه يُحمل الحديث الذي رواه البخاري: حدَّثنا بشر بن محمد، حدَّثنا عبدُ اللَّه، أنبأنا مَعْمر، عن همَّامِ بن مُنبّه، عن أبي هريرة، عن النبيِّ ﷺ نحوَه: "لولا بنو إسرائيل لم يَخْنزِ اللَّحمُ، ولولا حَوَّاءُ لم تخُنْ أنثى زوجَها" (٢).
تفرد به من هذا الوجه.
وأخرجاه في الصحيحين (٣): من حديث عبد الرزاق، عن معمر، عن همَّام، عن أبي هريرة به.
ورواه أحمد ومسلم (٤): عن هارون بن معروف، عن أبي وهب، عن عمرو بن حارث، عن أبي يونس، عن أبي هريرة به.
وفي كتاب التوراة التي بين أيدي أهل الكتاب أن الذي دلَّ حوَّاءَ على الأكل من الشجرة هي الحيَّةُ، وكانت من أحسن الأشكال وأعظمها، فأكلتْ حوَّاءُ عن قولها، وأطعمتْ آدمَ، وليس فيها ذكر لإبليس، فعند ذلك انفتحتْ أعينُهما، وعلما أنَّهما عُريانان، فوصلا من ورق التين، وعملا مآزرَ، وفيها أنَّهما كانا عُرْيانين.
وكذا قال وَهْبُ بن منبِّهْ: كان لباسُهما نورًا على فرجه وفرجها.
وهذا الذي في هذه التوراة التي بأيديهم غلطٌ منهم وتحريفٌ، وخطأ في التعريب، فإن نقل الكلام من لغة إلى لغة لا يكادُ يتيسَّر لكلِّ أحد، ولا سيما ممن لا يعرفُ كلامَ العرب جيدًا، ولا يُحيط علمًا بفهم كتابه أيضًا، فلهذا وقعَ في تعريبهم لها (٥) خطأ كثير لفظًا ومعنى، وقد دل القرآن العظيم على أنه كان عليهما لباس في قوله: ﴿يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا﴾ [الأعراف: ٢٧] فهذا لا يُردُّ لغيره من الكلام، واللَّه تعالى أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدَّثنا علي بن الحسين بن إشكاب، حدَّثنا عليّ بن عاصم، عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادةَ، عن الحسن، عن أبيّ بن كعب، قال: قال رسول اللَّه ﷺ: "إن اللَّه خلقَ آدمَ رجلًا طوالًا، كثيرَ شعر الرأس، كأنَّه نخلةٌ سحُوق، فلما ذاقَ الشجرةَ سقطَ عنه لباسه، فأوَّلُ ما بدا منه عورته، فلما نظرَ إلى عورتِه جعلَ يشتدُّ في الجنة، فأخذتْ شعرَه شجرةٌ فنازعَها، فناداه الرحمنُ: يا آدم! منيِّ تفرُّ.
فلما سمعَ كلامَ الرحمن، قال: يا ربِّ لا! ولكن استحياءً".
وقال الثوري: عن ابن أبي ليلى، عن المِنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس ﴿وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ﴾ [الأعراف: ٢٢] قال: ورق التين.
وهذا إسناد صحيح إليه، وكأنَّه مأخوذ من أهل الكتاب، وظاهر الآية يقتضي أعمَّ من ذلك، وبتقدير تسليمه فلا يضرُّ، واللَّه تعالى أعلم.
وروى الحافظ ابن عساكر: من طريق محمَّد بن إسحاق، عن الحَسن بن ذَكْوان، عن الحسن البَصْريِّ، عن أُبيِّ بن كعب، قال: قال رسولُ اللَّه ﷺ: "إنَّ أباكم آدمَ كان كالنخلة السَّحوق ستين ذراعًا، كثيرَ الشعر، مُوارى العورة، فلما أصابَ الخطيئةَ في الجنَّة بدتْ له سوآتُه، فخرجَ من الجنَّة، فلقيتهُ شجرةٌ فأخذتْ بناصيتهِ، فناداه ربُّه: أفرارًا مني يا آدمُ؟ قال: بل حياءً منكَ واللَّه يا ربِّ مما جئتُ به".
ثم رواه من طريق سعيد بن أبي عَروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن عُتيِّ بن ضَمْرة، عن أُبيِّ بن كعب، عن النبي ﷺ، بنحوه وهذا أصحُّ، فإن الحسنَ لم يُدرك أبيًّا.
ثم أوردَه أيضًا: من طريق خيثمةَ بن سُليمان الإطرابلسي، عن محمد بن عبد الوهاب أبي قِرْصافةَ العسقلاني، عن آدمَ بن أبي إياس، عن شيبانَ، عن قتادةَ، عن أنس مرفوعًا بنحوه.
﴿وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: ٢٢ - ٢٣] وهذا اعترافٌ ورجوعٌ إلى الإنابة، وتدْلُّلٌ وخضوعٌ واستكانةٌ، وافتقارٌ إليه تعالى في الساعة الراهنة، وهذا السِّرُّ ما سرَى في أحد من ذريَّته إلا كانت عاقبته إلى خير في دنياه وأخراه.
﴿قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾ [الأعراف: ٢٤] وهذا خطابٌ لآدمَ وحوَّاءَ وإبليسَ، قيل: والحيَّة معهم، أُمروا أن يَهبطوا من الجنَّة في حال كونهم متعادينَ متحاربينَ.
وقد يُستشهد لذكر الحيَّة معهما، بما ثبت في الحديث عن رسول اللَّه ﷺ: أنه أمر بقتل الحيَّات، وقال: "ما سالَمْناهُنَّ منذُ حارَبْناهنَّ".
(١) حدَتْه: حثَّته وحرَّضَتْه.
(٢) أخرجه البخاري في صحيحه (٣٣٣٠) في أحاديث الأنبياء.
وقوله ﷺ "يخنز": ينتن ويتغير، و"لولا حواء لم تخن أنثى زوجها".
قال الحافظ ابن حجر: ليس المراد بالخيانة هنا ارتكاب الفواحش، حاشا وكلَّا، ولكن لما مالت إلى شهوة النفس من أكل الشجرة، وحسَّنت ذلك لآدم، عُدَّ ذلك خيانة له.
وأما من جاء بعدها من النساء فخيانة كل واحدة منهن بحسبها.
وانظر الفتح (٦/ ٣٦٨).
(٣) أخرجه البخاري (٣٣٩٩) في أحاديث الأنبياء.
ومسلم (١٤٧٠) (٦٣) في الرضاع.
(٤) أخرجه أحمد في المسند (٢/ ٣٠٤ و ٣١٥) ومسلم (١٤٧٠) (٦٢) في الرضاع.
(٥) أي: للتوراة.
مختارات