فقه التوكل (٤)
وقد أثنى الله سبحانه على المتوكلين وأعلن محبته لهم.
وإنما يظهر تأثير التوكل في حركة العبد وسعيه إلى مقاصده.
وسعي العبد إما أن يكون لجلب نفع مفقود كالكسب.
أو لحفظ موجود كالادخار.
أو لدفع ضرر لم ينزل كدفع الصائل.
أو لإزالة ضرر قد نزل كالتداوي من المرض.
فحركات العبد لا تعدو هذه الأربعة.
فالأول: جلب المنافع، وتجلب إما بأسباب مقطوع بها كالأسباب التي أمر الله بها شرعاً وجعلها سبباً كأن يكون الطعام بين يديك وأنت جائع فلا تمد يدك إليه، وتقول أنا متوكل، وشرط التوكل ترك السعي، فهذا جنون وسفه محض، ليس من التوكل في شيء.
وكذلك لو لم تزرع وطمعت أن يخلق الله تعالى نباتاً من غير بذر، أو تلد الزوجة من غير وقاع، فكل ذلك جنون وجهل بسنة الله، وليس من التوكل.
وإنما التوكل أن تعتمد على الله في كل شيء، وتباشر الأسباب التي أمر الله بها ببدنك.
والثاني: أسباب ليست متيقنة كمن يسافر بغير زاد متوكلاً على الله، فهذا مجرب على الله، وفعله منهي عنه، وحمله للزاد مأمور به.
الثاني: في التعرض للأسباب بالادخار، ومن وجد قوتاً حلالاً يشغله كسب مثله عن جمع همه فادخاره إياه لا يخرجه عن التوكل.
الثالث: مباشرة الأسباب الدافعة للضرر، فليس من التوكل ترك الأسباب الدافعة للضرر، فلا يجوز النوم في أرض مسبعة، أو مجرى السيل، أو تحت جدار خراب، فكل ذلك منهي عنه.
ولا ينقض التوكل لبس الدرع، وإغلاق الباب، وشد البعير بالعقال، ويتوكل في ذلك كله على المسبب لا على السبب، ويكون راضياً بكل ما يقضي الله عليه.
ومتى عرض له أنه إذا سرق متاعه أنه لو احترز لم يسرق، أو أخذ يشكو ما جرى عليه فقد بان أن توكله مدخول، وأنه بعيد عن التوكل.
الرابع: السعي في إزالة الضرر كمداواة المريض ونحو ذلك.
فالسبب المزيل للضرر إما مقطوع به كالماء المزيل لضرر العطش، والخبز المزيل لضرر الجوع، فهذا تركه ليس من التوكل في شيء، بل تركه جنون وسفه.
وإما أن يكون السبب مظنوناً كالفصد والحجامة، وشرب المسهل ونحو ذلك فهذا لا يناقض التوكل.
وقد تداوى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر بالتداوي.
وإما أن يكون السبب موهوماً كالكي والرقية زمن العافية لئلا يمرضوا، فهذا ينافي التوكل، وإنما تكون الرقية والكي بعد المرض.
وليس معنى التوكل أن نترك العمل، بل الله عزَّ وجلَّ أمرنا بأمرين:
أمرنا أن نعمل.
وأمرنا ألا نعتمد على العمل.
أمرنا أن نكتسب، وأمرنا أن نؤمن أنه هو الرزاق وحده.
وأمرنا أن نتداوى، وأمرنا أن نؤمن أنه هو الشافي وحده.
وأمرنا أن نعد للعدو ما نستطيع، وأمرنا أن نعتمد عليه وحده.
وأمرنا أن نأخذ بالأسباب وأن نعتمد عليه وحده.
فمن أعد وعمل ولم يتوكل عليه سبحانه فقد أخل بأحد الأمرين، ومن توكل ولم يستعد فقد أخل بأحد الأمرين.
فلا بدَّ من الإيمان بالله، والإيمان بالأسباب التي بثها الله في الكون، فمن أنكر الأسباب وعطلها كفر، ومن جعل لها تأثيراً أشرك.
فالأسباب نؤمن بها ونفعلها، ولكن لا نعتمد إلا على الله وحده لا شريك له: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢)} [الأنعام: ١٠٢].
مختارات