74. جليبيب
جليبيب
"جليبيب مني وأنا منه"
[محمد رسول الله]
كان جليبيب يوم هاجر الرسول صلوات الله وسلامه عليه إلى المدينة؛ فتى يافعا (١) لم يجاوز العاشرة من عمره إلا قليلا …
فما إن اكتحلت عيناه الصغيرتان بمرأى الرسول الأعظم ﷺ حتى حل في السويداء من قلبه …
وشغف فؤاده بحبه.
.
وشغل به عن صحبه ولداته (٢) من الصبية الصغار؛ الذين كان يأنس بهم ويأنسون به.
ولم يكن لجليبيب إذ ذاك أهل ولا مال.
فاتخذ من مسجد الرسول صلوات الله وسلامه عليه لنفسه مقاما، ومن أهل الصفة (٣) أهلا وخلانا …
فكان يتبلغ (٤) معهم بما يهدى لرسول الله ﷺ من طعام …
وبما يتصدق به عليهم ذوو الإحسان.
وقد كان جليبيب خفيف الظل؛ حلو الدعابة …
آلفا مألوفا.
فكان يغدو على بيوت الأنصار في يثرب؛ فينثر فيها ما يمتعهم من طرفه …
ويعطر أجواءها بما يرويه لهم من ملحه.
وقد كان لا يغلق دونه باب، ولا تحتشم منه امرأة …
لأنه كان صغيرا؛ لم يبلغ الحلم (٥) بعد.
* * *
ثم شب جليبيب وبلغ مبالغ الرجال؛ فطفق الأزواج ينبهون زوجاتهم وبناتهم إلى أن جليبيبا لم يبق صغيرا كما عهدنه من قبل …
وأن عليهن أن يستترن منه …
وألا يأذن له بالدخول عليهن؛ كما كن يفعلن …
* * *
وفي ذات يوم قال الرسول صلوات الله وسلامه عليه لجليبيب:
(ألا تتزوج يا جليبيب؟).
فقال: ومن يزوجني يا رسول الله؟! …
فأنا شاب فقير لا نفقة عندي ولا صداق (٦).
فقال النبي:
(أنا أبتغي (٧) لك الزوجة الصالحة …
والله تعالى هو الذي يغنيكما من فضله).
* * *
وقد كان من عادة أصحاب النبي ﷺ أنه إذا كانت عندهم بنت يريدون تزويجها أو أيم (٨) توفي عنها زوجها؛ ألا يزوجوها من أحد؛ إلا بعد أن يعرضوها على الرسول ﷺ …
حتى يعلموا إن كانت له بها حاجة أم لا.
* * *
مضت مدة لم تعرض فيها امرأة على النبي ﷺ تصلح لجليبيب؛ فلما أبطأ ذلك عليه؛ بادر إلى رجل من الأنصار، وقال:
(يا فلان زوجني ابنتك فلانة).
فاستطار الرجل فرحا بما سمع وقال:
نعم يا رسول الله … نعم، ونعمة عين …
أكرم بك يا رسول الله من صهر، وأعزز.
فقال له النبي:
(إني لست أريدها لنفسي).
فخمد (٩) الرجل وقال:
لمن تريدها يا رسول الله؟.
فقال النبي صلوات الله وسلامه عليه:
(لجليبيب … ).
فغاض (١٠) البشر الذي كان يطفح على وجه الرجل، وقال:
أنظرني - يا رسول الله - حتى أستشير أمها؛ فأنا لا أريد أن أقطع في أمر كهذا من دونها …
* * *
مضى الرجل إلى بيته كاسف البال حزين النفس …
فقد كان يعلم علم اليقين؛ بأن زوجته لا ترضى بفتى مثل جليبيب بعلا (١١) لبنتها.
وكان في الوقت ذاته لا تطيب (١٢) نفسه أبدا؛ بأن يرد الرسول خائبا … مهما كان مطلبه عزيزا.
فلما بلغ البيت؛ نادى زوجته وقال:
يا أم فلانة؛ فأقبلت عليه وهي تقول: لبيك.
فقال: إن رسول الله ﷺ يخطب ابنتك.
فقالت: ابنتي …
رسول الله ﷺ يخطب ابنتي …
يا لسعدها …
مرحبا برسول الله ﷺ؛ مرحبا به …
نعم نزوج رسول الله ﷺ.
وهل فوق ذلك الشرف من شرف؟!.
فقاطعها الرجل وقال:
ولكنه لا يريدها لنفسه.
فسكنت المرأة وقالت في خيبة:
فلمن يريدها إذن؟.
قال: لجليبيب.
فقالت: لجليبيب؟!! … لا …
لعمر الله! لا أزوجها من جليبيب.
فقال الرجل: ماذا أقول لرسول الله ﷺ؟!.
فقالت: قل له ما تشاء …
تقدم له بما يحضرك من عذر.
فما أنا بالتي ترضى جليبيبا زوجا لبنتها ولا صهرا لها.
وحمي الحوار بين الزوجين، وارتفع صوتاهما …
فالزوج يسترضي امرأته ويستلينها …
والزوجة تشتد على زوجها وتصر …
فلما يئس من إقناعها وهم بالمضي إلى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه لإبلاغه القرار …
بادرت إليهما ابنتهما؛ وكانت قد سمعت أطرافا من الحوار الذي دار بينهما، وقالت: من خطبني إليكم؟.
فقالت الأم: خطبك النبي ﷺ لجليبيب!! …
وقد رفضت أن أزوجك منه …
فبنت في مثل شبابك وجمالك وحسبك (١٣)؛ جديرة بأكرم الأزواج.
فقالت الفتاة:
ويحكم!! أتردون على رسول الله ﷺ أمره؟!! …
والله! ما أنا بالتي ترفض طلبا لرسول الله ﷺ …
أجيبوا طلب رسول الله ﷺ …
فالنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
أعطوني لجليبيب، وثقوا بأن الله لن يضيعني أبدا.
فسكتت الأم على مضض (١٤) …
ومضى الأب إلى رسول الله ﷺ وقال:
أنت وما تريد يا رسول الله …
زوح ابنتنا من جليبيب.
فانبسطت أسارير رسول الله ﷺ، ودعا للبنت؛ فقال:
(اللهم صب عليها الخير صبا، ولا تجعل عيشها كدا (١٥) …
وزوجها من جليبيب.
* * *
لم يمض على فرحة جليبيب بعروسه غير أيام معدودات؛ حتى دعا الرسول الكريم ﷺ الناس لغزوة يغزونها معه في سبيل الله.
فبادر جليبيب إلى تلبية دعوة النبي صلوات الله وسلامه عليه، وجهز نفسه، وودع عروسه، ومضى في صحبة الرسول الأعظم ﷺ.
* * *
ولما أنجز النبي صلوات الله وسلامه عليه غزوته، وأفاء الله عليه بالنصر؛ قال لأصحابه:
(هل تفقدون من أحد).
قالوا: لا يا رسول الله.
فقال:
(ولكني أفقد جليبيبا؛ فاطلبوه (١٦).
فطفق صحابة رسول الله صلوات الله وسلامه عليه يبحثون عن جليبيب في ساحة المعركة …
فإذا هو قد أردى (١٧) سبعة من المشركين بسيفه.
ثم خر صريعا إلى جنبهم … وهو مقبل غير مدبر.
فرجعوا إلى رسول الله ﷺ وقالوا:
ها هو ذا جليبيب إلى جانب سبعة قتلهم ثم قتل.
فقام إليه الرسول ﷺ، ووقف فوقه، وقال:
(قتل سبعة ثم قتلوه.
هذا مني وأنا منه …
هذا مني وأنا منه).
ثم أمر بأن يحفروا له قبرا.
.
فلما أتموا حفر القبر …
قام إليه النبي الأعظم ﷺ وحمله على ساعديه …
ووضعه بيديه الشريفتين في مثواه …
وأهال عليه التراب.
* * *
ولما انقضت عدة (١٨) زوجة جليبيب؛ أقبل عليها الناس يخطبونها لأنفسهم إقبالا عظيما …
حتى إنه ما كان في الأنصار أيم أكثر منها خطابا ولا رغابا.
فالناس كانوا يعلمون أن رسول الله ﷺ؛ قد دعا لها الله: بأن يصب عليها الخير صبا …
وألا يجعل عيشها كدا (*).
_________
(١) فتى يافعا: فتى في بواكير الصبا.
(٢) لداته: المماثلون له في السن.
(٣) الصفة: مكان في مسجد رسول الله ﷺ كان يأوي إليه الفقراء الذين لا بيوت لهم، وكانوا يدعون أهل الصفة.
(٤) يتبلغ: يتناول القليل الذي يحفظ حياته.
(٥) لم يبلغ الحلم: لم يبلغ مبلغ الرجال.
(٦) الصداق: ما يعطى للمرأة من المال مهرا لها.
(٧) أبتغي لك: أطلب لك.
(٨) الأيم: المرأة التي فقدت زوجها.
(٩) خمد الرجل: سكن.
(١٠) فغاض البشر: ذهب واختفى.
(١١) بعلا: زوجا.
(١٢) لا تطيب نفسه: لا تسر ولا ترتاح.
(١٣) الحسب: الشرف.
(١٤) المضض: التألم والتوجع.
(١٥) كدا: تعبا.
(١٦) فاطلبوه: فابحثوا عنه.
(١٧) أردى: قتل.
(١٨) العدة: المدة المشروعة التي تقضيها المرأة بعد وفاة زوجها أو طلاقها منه.
مختارات