فقه التوكل (٣)
وروح التوكل ولبه وحقيقته:
تفويض الأمور كلها إلى الله، وإنزالها به طلباً واختياراً لا كرهاً واضطراراً، كتفويض الابن العاجز الضعيف كل أموره إلى أبيه، العالم بشفقته عليه ورحمته وتمام كفايته، وحسن ولايته وتدبيره، فهو يرى أن تدبير أبيه له وقيامه بمصالحه خير له من تدبير نفسه، فلا يجد أصلح له وأرفق به من تفويض أموره كلها إلى أبيه.
فإذا وضع العبد قدمه في هذه الدرجة انتقل منها إلى درجة الرضا، وهي ثمرة التوكل وأعظمها فائدة.
فإنه إذا توكل حق التوكل رضي بما يفعله وكيله.
وباستكمال هذه الدرجات يستكمل العبد مقام التوكل، وتثبت قدمه فيه.
والتوكل له تعلق بعامة أسماء الله وصفاته كالغفار والعزيز، والرحمن والتواب، والفتاح والرزاق، والقوي والقدير، والمعطي والمانع ونحو ذلك.
وبحسب معرفة العبد بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، يصح له مقام التوكل، وكلما كان بالله أعرف كان توكله على ربه أقوى.
وكان الناس في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - على قسمين:
الأول: من عنده الأشغال الكسبية، وهؤلاء عامة الصحابة رضي الله عنهم.
الثاني: من ليس عنده الأشغال الكسبية، كأصحاب الصفة رضي الله عنهم.
ومن كان عندهم الأشغال الكسبية كان في توكلهم شيئان:
الأول: أنهم لا ينظرون إلى زيادة المال، بل ينظرون إلى تنفيذ أوامر الله ورسوله فيه ولو قل المال.
الثاني: أنهم كانوا متهيئين مع شغلهم ومستعدين للخروج في سبيل الله في أي وقت طلبهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه، ومتى لزم الأمر، ولا يتفكرون في أموالهم، وبذلك أعطاهم الله البركة في أموالهم.
أما من ليس عنده الأشغال الكسبية ففي توكلهم ثلاثة أشياء:
أنهم كانوا لا يسألون الناس باللسان ولا بالحال.
وليس في قلوبهم إشراف لما عند الناس.
وإذا جاءت عليهم المشقة لا يخبرون أحداً بل يتوجهون إلى الله وحده ويبكون أمام الله، وبذلك يأتيهم الفرج، وتنزل عليهم نصرة الله.
وقد وكل الله عزَّ وجلَّ بدينه أنبياءه ورسله، ومن آمن بهم، ووفقهم للإيمان به والقيام بحقه، والذب عنه، وجهاد أعدائه.
وهو توكيل رحمة وإحسان، وتوفيق واختصاص، لا توكيل حاجة كما يوكل الرجل من يتصرف عنه في غيبته لحاجته إليه.
فمن آمن بهم أسعده الله في الدنيا والآخرة، ومن كذبهم وأعرض عن هديهم فالرسل قائمون بها، مؤدون لها، مستقيمون عليها: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (٩٠)} [الأنعام: ٩٠].
والتوكل على ثلاث درجات:
الأولى: التوكل على الله مع الطلب وفعل السبب، على نية شغل النفس بالسبب مخافة أن تفرغ فتشتغل بالهوى والشهوات، فإنه إن لم يشغل النفس بما ينفعها شغلته بما يضره.
وكذلك يقوم بالسبب على نية نفع النفس، ونفع الناس بذلك.
وكذلك يقوم بالسبب ليتخلص من إشارة الخلق إليه، الموجبة لحسن ظنه بنفسه، الموجب لدعواه، فالسبب ستر لحاله ومقامه، وحجاب مسبل عليه.
ومن وجه آخر، وهو أن يشهد به فقره وذله، وامتهانه امتهان العبيد والفعلة، فيتخلص من رعونة دعوى النفس.
وأعظم من هذا كله أن القيام بالأسباب المأمور بها محض العبودية، وحق الله على عبده، الذي توجهت به نحوه المطالب، وترتب عليه الثواب والعقاب، وأرسلت به الرسل، وأنزلت لأجله الكتب، وبه قامت السموات والأرض.
الدرجة الثانية: التوكل مع إسقاط الطلب من الخلق، فإن الطلب من الخلق في الأصل محظور، ولا يباح إلا عند الضرورة، فلا يطلب من أحد شيئاً.
فسؤال المخلوق للمخلوق سؤال الفقير للفقير، والله تعالى غني حميد، يحب من يسأله، وقبيح بالإنسان أن يتعرض لسؤال العبيد وهو يجد عند مولاه كل ما يريد.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأَقْلَامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» أخرجه أحمد والترمذي (١).
الدرجة الثالثة: أن يعلم أن ملك الحق تعالى للأشياء هي ملكة عزة لا يشاركه فيها أحد، فهي ملكة قوة وامتناع وقهر تمنع أن يشاركه في ملكه لشيء من الأشياء مشارك.
فهو سبحانه العزيز في ملكه، الذي لا يشاركه غيره في ذرة منه، كما هو المتفرد بعزته التي لا يشاركه فيها مشارك.
وعلم العبد بتفرد الحق تعالى وحده بملك الأشياء كلها، وقدرته على كل شيء، وأنه ليس له مشارك في ذرة من ذرات الكون من أقوى أسباب توكله.
فإذا تحقق ذلك علماً ومعرفة لم يجد بداً من اعتماد قلبه عليه سبحانه وثقته به، وسكونه إليه وحده، وطمأنينته به، لعلمه أن حاجاته وفاقاته وجميع مصالحه كلها بيد الله وحده، لا بيد غيره.
وعلة التوكل:
التفات القلب إلى ما سوى الله، إلى من ليس له شركة في ملك الحق، ولا يملك مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، فهذه علة توكله، وعلة أخرى وهي رؤية توكله، فإنه التفات إلى عوالم نفسه.
وعلة ثالثة وهي صرف قوة توكله إلى شيء غيره أحب إلى الله منه.
والتوكل: عبارة عن اعتماد القلب على الوكيل وحده.
وحال العبد في توكله على الله درجات:
الأولى: أن يكون حاله مع ربه وثقته بكفالته وعنايته كحاله في الثقة بالوكيل عادة.
الثانية: وهي أقوى، أن يكون حاله مع ربه كحال الطفل مع أمه، فهو لا يعرف غيرها، ولا يفزع لأحد سواها، فإذا رآها تعلق في كل حال بذيلها، وطلب منها كل ما يريد.
الثالثة: وهي أعلاها، أن يكون بين يدي الله تعالى في حركاته وسكناته كالميت بين يدي الغاسل، يرى تدبيره وتصريفه بيد مالكه الذي يدبر الكون، فهو مثل صبي علم أنه إن لم يزعق بأمه، فالأم تطلبه ولا تتركه.
وهذا المقام في التوكل سببه المعرفة والثقة بكرم الله وعنايته، وأنه يعطي ابتداء أفضل مما يُسأل، ويقتضي الشكر له، وسؤاله وعدم سؤال غيره.
ووجود العبد الرزق من غير طلب دلالة على أن الرزق مأمور بطلب العبد، ولن تموت نفس حتى تستكمل رزقها: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦)} [هود: ٦].
وقوة التوكل مبنية على كمال التوحيد، فمن كان توحيده أكمل كان توكله على الله أعظم.
فإذا آمن العبد بالله رأى كل شيء صادراً عن الواحد، ومتى علم أنه لا فاعل سوى الله لم ينظر إلى غيره، بل يكون الخوف منه، والرجاء له، وبه الثقة، وعليه التوكل وحده؛ لأنه في الحقيقة هو الفاعل وحده، والكل مسخرون له.
فلا يعتمد على المطر أو الماء في خروج الزرع.
ولا يعتمد على الريح في سير السفينة.
ولا على العين في الرؤية.
ولا على الأذن في سماع الأصوات.
ولا على الطعام في الشبع.
ولا على الدواء في الشفاء.
ومن علم أن القلم لا حكم له في نفسه.
شكر الكاتب دون القلم.
وكل المخلوقات في قهر تسخير الخالق أبلغ من القلم في يد الكاتب.
فسبحان مسبب الأسباب، الفعال لما يريد، الذي لا تتحرك ذرة إلا بإذنه.
فالتوكل هو اعتماد القلب على الوكيل، ولا يتوكل الإنسان على غيره إلا إذا اعتقد فيه أشياء يحبها ويطمئن إليها كالشفقة والقوة، والمعرفة والغنى، والهداية والأمانة، وحسن التدبير، وحسن الخلق.
وإذا عرفت هذا فقس عليه التوكل على الله سبحانه، وإذا ثبت في نفسك أنه لا فاعل سواه، واعتقدت مع ذلك أنه تام العلم والقدرة، واسع الرحمة، عظيم الحلم، جزيل العطاء، وأنه ليس وراء قدرته قدرة، ولا وراء علمه علم، ولا وراء رحمته رحمة، اتكل قلبك عليه وحده لا محالة، ولم يلتفت إلى غيره بوجه من الوجوه.
وإذا لم يجد العبد هذه الحالة في نفسه فذلك إما لضعف اليقين بإحدى هذه الخصال، وإما لضعف القلب باستيلاء الجبن عليه.
فلا يتم التوكل إلا بقوة القلب، وقوة اليقين جميعاً.
وليس معنى التوكل ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالعقل والقلب، والسقوط على الأرض، فهذا فعل الجهال، وهو محرم في الشرع.
(١) صحيح: أخرجه أحمد برقم (٢٦٦٩).
وأخرجه الترمذي برقم (٢٥١٦)، صحيح سنن الترمذي رقم (٢٠٤٣).
مختارات