فقه الإخلاص (١)
قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥)} [البينة: ٥].
وقال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)} [الأنعام: ١٦٢، ١٦٣].
الإخلاص: هو إفراد الله تبارك وتعالى بالقصد في الطاعة، وتصفية العمل عن ملاحظة الخلق بدوام النظر إلى الخالق.
والإخلاص يكون بتصفية العمل عما يشوبه من شوائب إرادات النفس:
إما طلب التزين في قلوب الخلق.
وإما طلب مدحهم.
وإما الهرب من ذمهم.
أو طلب تعظيمهم.
أو طلب أموالهم أو خدمتهم.
أو طلب محبتهم وقضائهم حوائجه.
أو غير ذلك من العلل والشوائب التي يجمعها إرادة ما سوى الله بعمله كائناً ما كان.
والإخلاص سر بين العبد وربه لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا عدو فيحسده.
والإخلاص على ثلاث درجات:
الأولى: عدم رؤية عمله وملاحظته، والخلاص من طلب العوض عليه، وعدم رضاه به وسكونه إليه.
فالذي يخلص العبد من رؤية عمله مشاهدته لمنَّة الله عليه، وفضله وتوفيقه له، وأنه بالله لا بنفسه.
والذي يخلصه من طلب العوض على العمل علمه بأنه عبد محض، والعبد لا يستحق على خدمته لسيده عوضاً ولا أجرة.
وما يناله من الأجر والثواب تفضل منه، وإحسان إليه، وإنعام عليه، لا معاوضة ولا أجرة.
والذي يخلص من رضاه بفعله وسكونه إليه مطالعة عيوبه وآفاته، وتقصيره فيه، وما فيه من حظ النفس والشيطان، وعلمه بما يستحقه الرب جلَّ جلاله من حقوق العبودية، وآدابها الظاهرة والباطنة، وأن العبد أضعف وأعجز وأقل من أن يوفيها حقها، وأن يرضى بها لربه.
الدرجة الثانية: خجله من عمله، مع بذل مجهوده فيه، وهو شدة حيائه من الله، إذ لم ير ذلك العمل صالحاً له، ودون ما يليق بجلاله وعظمته سبحانه.
وتوفير الجهد التام لتصحيح العمل محتمياً عن شهوده له، ورؤية عمله من عين جوده سبحانه، لا بالعبد ولا منه كما قال سبحانه: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٧)} [الحجرات: ١٧].
الدرجة الثالثة: إخلاص العمل، بأن يجعل العبد عمله تابعاً للعلم، موافقاً له، مؤتماً به، يسير بسيره، ويقف بوقوفه.
ناظراً إلى الحكم الديني الشرعي، متقيداً به فعلاً وتركاً، ناظراً إلى ترتيب الثواب والعقاب عليه سبباً وكسباً.
شاهداً للحكم الكوني القدري الذي تنطوي فيه الأسباب والمسببات، والحركات والسكنات، فلا يبقى هناك غير محض المشيئة، وتفرد الرب وحده بالأفعال.
نافياً لما سواه، معتصماً به وحده، متوكلاً عليه وحده، قاصداً وجهه وحده كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه سبحانه: «أنَا أغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلا أشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» أخرجه مسلم (١).
والصلاة والزكاة والصوم والحج وسائر الأعمال بدون الإيمان لا تكون شيئاً، ولا تكون عملاً صالحاً، بل هي مطلق عمل لا يعبأ الله به.
فإذا كانت مع الإيمان وعلى هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صارت أعمالاً صالحة.
وكذلك الإيمان مقترن بالإخلاص فهما توأمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، فأول من يدخل الجنة الشهيد والجواد والقارئ، وأول من تسعر بهم النار هؤلاء الثلاثة.
فبوجود الإيمان والإخلاص لهؤلاء الجنة، وبفقد الإيمان والإخلاص هؤلاء إلى النار كما قال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥)} [البينة: ٥].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قال: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قال: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ، قال: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأنْ يُقَالَ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى ألْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأ الْقُرْآنَ، فَأتِيَ بِهِ، فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قال: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قال: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ، قال: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى ألْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ وَأعْطَاهُ مِنْ أصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قال: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قال: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلا أنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ، قال: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ ألْقِيَ فِي النَّارِ» أخرجه مسلم (٢).
والرياء ضد الإخلاص، وهو مشتق من الرؤية، والسمعة مشتقة من السماع.
فالمرائي يري الناس أو يُسمعهم ما يطلب به الحظوة والمنزلة عندهم، والرياء محبط للأعمال، وسبب لمقت الله تعالى.
(١) أخرجه مسلم برقم (٢٩٨٥).
(٢) أخرجه مسلم برقم (١٩٠٥).
مختارات