فقه الاستقامة (٥)
إن هذا الدين جد وحق، جاء ليحكم الحياة في النفس والمجتمع، في المسجد والبيت والسوق، وفي كل مكان وزمان.
جاء ليعبد الناس الله وحده، ويرد الأمر كله إلى شريعة الله، لا إلى شرع أحد سواه.
جاء هذا الدين العظيم الكامل الشامل ليحكم الحياة كلها، ولتواجه بأحكام الله حاجات الحياة الواقعية.
ولم يجيء هذا الدين ليكون مجرد شارة أو شعار، ولا لتكون شريعته موضوع دراسة نظرية لا علاقة لها بواقع الحياة، ولا لتعيش مع الفروض التي لم تقع، وتضع لهذه الفروض الطائرة أحكاماً فقهية في الهواء.
وبمثل هذا انحدر كثير من المسلمين في القاع، وبدلوا نعمة الله كفراً، وارتدوا على أعقابهم من بعد ما تبين لهم الهدى، وركبوا مركباً آخر، وما يعدل عن شرع الله إلى شرع الناس إلا ضال جهول، أو مغتر كفور: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)} [المائدة: ٥٠].
إن هذا الدين الذي أكرم الله به هذه الأمة ليس نظرية يتعلمها الناس في كتاب للترفه الذهني، والتكاثر بالعلم والمعرفة.
وليس كذلك عقيدة سلبية يعيش بها الناس بينهم وبين ربهم وكفى، كما أنه ليس مجرد شعائر يؤديها الناس لربهم فيما بينهم وبينه، بل إنما هو مع ذلك حركة لتغيير منهج الناس في الحياة ليكون على مراد الله لا على مراد غيره كما قال سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)} [الأنفال: ٣٩، ٤٠].
والاستقامة مبنية على شيئين:
أحدهما: حراسة الخواطر وحفظها، والحذر من إهمالها، والاسترسال معها.
الثاني: صدق التأهب للقاء الله عزَّ وجلَّ.
فأصل الفساد كله يجيء من قبل الخواطر؛ لأنها هي بذر الشيطان، والنفس في أرض القلب.
فإذا تمكن بذرها في القلب تعهدها الشيطان بالسقي مرة بعد أخرى حتى تصير إرادات، ثم يسقيها بسقيه حتى تكون عزائم، ثم لا يزال بها حتى تثمر الأعمال المهلكة.
ولا ريب أن دفع الخواطر أيسر من دفع الإرادات والعزائم، فالخواطر كالشرارة يسهل إطفاؤها، والإرادات والعزائم كالنار المشتعلة.
ولحفظ الخواطر أسباب عدة:
أحدها: العلم الجازم باطلاع الرب سبحانه عليك، ونظره إلى قلبك، وعلمه بتفاصيل خواطرك.
الثاني: حياؤك منه.
الثالث: إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر في بيته الذي خلق لمعرفته ومحبته وعبادته.
الرابع: خوفك منه أن تسقط من عينه بتلك الخواطر.
الخامس: إيثارك له أن تساكن قلبك غير محبته.
السادس: خشيتك أن يستعير شرر تلك الخواطر فتأكل ما في القلب من الإيمان ومحبة الله.
السابع: أن يعلم العبد أن تلك الخواطر بمنزلة الحب الذي يلقى للطائر ليصاد به.
الثامن: أن يعلم العبد أن تلك الخواطر الرديئة لا تجتمع هي وخواطر الإيمان، ودواعي المحبة في قلب المؤمن؛ لأنها ضدها من كل وجه.
التاسع: أن يعلم أن تلك الخواطر بحر من بحور الخيال لا ساحل له، فإذا دخل القلب في غمراته غرق فيه، وتاه في ظلماته.
العاشر: أن تلك الخواطر الرديئة هي وادي الحمقى، وأماني الجاهلين، فلا تثمر لصاحبها إلا الندامة والخزي، أما الخواطر الإيمانية فهي أصل الخير كله، فإذا بذر في القلب بذر الإيمان، والخشية، والمحبة، والإنابة، أثمرت كل فعل جميل، وملأت قلبه من الخيرات، واستعملت جوارحه في الطاعات.
وحفظ الخواطر نافع لصاحبه بشرطين:
أحدها: أن لا يترك به واجباً ولا سنة.
الثاني: أن لا يجعل مجرد حفظها هو المقصود، بل لا يتم ذلك إلا بأن يجعل موضعها خواطر الإيمان والمحبة والإنابة والتوكل والخشية، فيفرغ قلبه من تلك الخواطر الرديئة، ويعمره بأضدادها، وإلا فمتى عمل على تفريغه منها معاً كان خاسراً، فلا بدَّ من الانتباه لهذا.
أما صدق التأهب للقاء الله فهو من أنفع ما للعبد، وأبلغه في حصول استقامته.
فإن من استعد للقاء الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها وعن مطالبها، وخمدت من نفسه نيران الشهوات، وأخبت قلبه إلى الله، وعكفت همته على الله وعلى محبته، وعلى إيثار مرضاته.
واستحدث همة أخرى وعلوماً أخر، وولد ولادة أخرى تكون نسبة قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إلى هذه الدار بعد أن كان في بطن أمه.
فيولد قلبه ولادة حقيقية كما ولد جسمه حقيقة.
فخروج قلبه عن نفسه بارزاً إلى الدار الآخرة، كخروج جسمه عن بطن أمه بارزاً إلى هذه الدار.
وأكثر الناس لم يولدوا هذه الولادة ولا تصوروها، فضلاً عن أن يصدقوا بها، لم يكن لهم إليها همة ولا عزيمة، وإلا كما كان بطن أمه حجاباً لجسمه عن هذه الدار، فهكذا نفسه وهواه حجاب لقلبه عن الدار الآخرة.
وإذا كشف حجاب الغفلة عن القلب صدق بذلك وعلم أنه لم يولد قلبه بعد.
وكل إنسان في العالم هالك وخاسر إلا من قضى حياته في أمرين:
إصلاح نفسه.
وإصلاح غيره.
فإصلاح النفس تزكيتها وتربيتها حتى تستقيم على أوامر الله.
وإصلاح الغير دعوة الناس إلى الحق والصبر على ذلك كما قال سبحانه:
{وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)} [العصر: ١ - ٣].
والاستقامة هي سلوك الصراط المستقيم الموصل إلى الله، وهو العدل الذي يجمع الحكمة والعفة والشجاعة، فالله عزَّ وجلَّ لما أسكن الروح في البدن المعرض للمهالك أودع فيه ثلاث قوى:
القوة الشهوانية البهيمية الجالبة للمنافع.
والقوة الغضبية السبعية الدافعة للمضار.
والقوة العقلية الملكية المميزة بين النافع والضار.
والله بحكمته لم يحدد تلك القوى.
فيحصل فيها إما الزيادة، أو النقصان، أو العدل -وهو الوسط-.
فتفريط القوة العقلية الغباوة والبلادة.
وإفراطها التدقيق في سفاسف الأمور.
ووسطها الحكمة.
وتفريط القوة الشهوانية الخمود وعدم الاشتياق إلى شيء، وإفراطها الفجور، بأن يشتهي ما صادف، حَلّ أو حَرُم، ووسطها العفة، بأن يرغب في الحلال، ويهرب من الحرام.
وتفريط القوة الغضبية الجبن والخوف مما لا يخاف منه، وإفراطها التهور.
ووسطها الشجاعة لإعلاء كلمة الله.
فالأطراف الستة ظلم.
والأوساط الثلاثة هي العدل الذي هو الصراط المستقيم.
وقد أرسل الله الأنبياء بالدين الذي جاء بتنظيم وتحسين حياة الناس عامة في العبادات والمعاملات، والمعاشرات والأخلاق.
فمن استقام على ذلك أسعده الله في الدنيا والآخرة.
ومن انحرف عن ذلك شقي في الدنيا والآخرة.
أما من يصلي على طريقة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ويبيع ويشتري على طريقة اليهود.
ويتزوج ويلبس على طريقة النصارى.
ويأكل ويشرب على طريقة المجوس، فهذا الخلط مردود غير مقبول، ولمن فعل ذلك الخزي في الدنيا، والعذاب في الآخرة كما قال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥)} [البقرة: ٨٥].
مختارات