فقه الاستقامة (٤)
والاستقامة على ثلاث درجات:
الأولى: الاستقامة على الاجتهاد في الاقتصاد، وذلك ببذل المجهود وأداء العمل بإخلاص وفق السنة.
والاقتصاد في العمل هو السلوك بين طرفي الإفراط والتفريط، فالإفراط جور على النفوس، والتفريط إضاعة الأمور.
فإن الشيطان يشم قلب العبد ويختبره، فإن رأى فيه داعية إلى البدعة، وإعراضاً عن كمال الانقياد للسنة أخرجه عن الاعتصام به.
وإن رأى فيه حرصاً على السنة وشدة طلب لها أمره بالاجتهاد والجور على النفس، ومجاوزة حد الاقتصاد فيها.
وكلا الأمرين خروج عن السنة إلى البدعة، لكن هذا إلى بدعة التفريط والإضاعة، والآخر إلى بدعة المجاوزة والإسراف، وكذلك الرياء في الأعمال يخرجه عن الاستقامة، وكل الخير في اجتهاد في اقتصاد، وإخلاص مقرون بالاتباع.
الدرجة الثانية: استقامة الأحوال، بشهود تفرد الرب بالأفعال وتفرده بالوجود، وتفرده بالإيجاد، وما سواه محل جريان أحكامه وأفعاله، ويستيقظ من غفلته، ويرى أنه في ذلك كالمجذوب المأخوذ عن نفسه، حفظاً من الله له، لا أن ذلك حصل بتحفظه واحترازه، فليس سبب بقائه في قدر اليقظة بحفظه؛ بل بحفظ الله له.
الثالثة: الاستقامة بترك رؤية الاستقامة، وأنها حصلت بتوفيق الله، فالله هو الذي أقامه ورزقه الاستقامة، لا بنفسه ولا بطلبه، فذكره لهذا يغيب به عن استشعار طلبه لها.
والاستقامة كلمة جامعة، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق والطاعة والوفاء بالعهد.
واستقامة الأمة المسلمة تقوم على أمرين:
الأول: الإيمان والتقوى، التقوى التي تبلغ أن توفي بحق الله الجليل، التقوى الدائمة المستمرة حتى يبلغ الكتاب أجله كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)} [آل عمران: ١٠٢].
الثاني: الأخوة في الله على منهج الله، والتعاون لتحقيق منهج الله، بالاعتصام بحبل الله، لا بأي حبل من حبال الجاهلية الكثيرة كما قال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)} [آل عمران: ١٠٣].
وبهذين الأمرين تحقق الأمة وجودها، وتؤدي دورها وفق مراد ربها، وبدون ذلك يكون تجمعها جاهلياً يمزق الأمة، ويفسد الأخلاق، ويعبث في حياة الأمة بلا منازع.
والحياة البشرية لا تستقيم إلا إذا تلقت العقيدة والشعائر والشرائع من مصدر واحد، يملك السلطان على القلوب والأبدان، ويملك السلطان على الظواهر والبواطن، ويملك السلطان على الحركة والسلوك.
ويجزي الناس وفق شرائعه في الحياة الدنيا، كما يجزيهم وفق حسابه في الآخرة، وذلك لا يكون إلا لله وحده لا شريك له.
وإنما تشقى البشرية وتفسد حياتها وتضطرب أحوالها حين تتوزع السلطة، وتتعدد مصادر التلقي.
حين تكون السلطة لله في القلوب والشعائر، بينما السلطة لغيره في الأنظمة والشرائع.
حين تكون السلطة لله في جزاء الآخرة، بينما السلطة لغيره في عقوبات الدنيا.
وبمثل هذا تفسد الحياة، وتتمزق النفس البشرية بين سلطتين مختلفتين، فيحصل التصادم بين أوامر الله، وأهواء البشر.
ويحصل لمن فعل ذلك الخزي في الدنيا، والعذاب الشديد في الآخرة كما قال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥)} [البقرة: ٨٥].
ومن أجل هذا جاء كل دين من عند الله ليكون منهج حياة، سواء كان هذا الدين لقرية من القرى، أو لأمة من الأمم، أو للبشرية كافة في جميع أجيالها.
فقد جاء ومعه شريعة معينة تحكم واقع الحياة، إلى جانب عقيدة تنشئ التصور الصحيح بالإيمان بالله، إلى جانب الشعائر التعبدية التي تربط القلوب بالله، والتي تذكره بربه فيقبل على طاعته ويحذر معصيته.
وهذه الجوانب الثلاثة قوام دين الله حيثما جاء دين من عند الله.
والحياة البشرية لا يمكن أن تصلح وتستقيم، حتى يكون دين الله هو منهج الحياة كلها.
والحكم بما أنزل الله وإقامة الحياة وفق شريعة الله سيواجه في كل زمان ومكان معارضة من بعض الناس، ولن تقبله نفوس هذا البعض بالرضى والقبول والاستسلام.
وهذه سنة الله، فالحق له أهل وأنصار، والباطل له أهل وأنصار ستواجه الحق وأهله معارضة الكبراء والطغام والسلاطين.
وستواجهه معارضة أصحاب المصالح المادية القائمة على الاستغلال والظلم والسحت.
وستقاومه سهام ذوي الشهوات والأهواء والمتاع الفاجر والانحلال؛ ذلك أن دين الله سيأخذهم بالتطهر منها، وسيأخذهم بالعقوبة عليها، وسيجعل الناس أمام دين الله سواء.
وستواجهه أفراد وأمم ومذاهب حسداً من عند أنفسهم.
وستقاومه وتقف له الجموع المضللة أو المنحرفة أو المنحلة التي تستثقل أحكام شريعة الله وتشغب عليها.
فعلى أهله الذين كلفوا بالاستقامة عليه والمحافظة عليه، وكلفوا أن يكونوا شهداء عليه أن يؤدوا الشهادة له في أنفسهم بالاستقامة عليه، والثبات عليه، وبذل النفوس من أجله.
وقد علم سبحانه أن الحكم بما أنزل الله ستواجهه هذه المقاومة من شتى الجبهات، فلا بدَّ من مواجهة هذه المقاومة والصمود لها، واحتمال تكاليفها في النفس والمال كما قال سبحانه: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (٤٤)} [المائدة: ٤٤].
فلا تقف خشيتهم للناس دون تنفيذهم لشريعة الله، ولا تقف خشيتهم لهؤلاء وغيرهم دون المضي في تحكيم شريعة الله في الحياة.
فالله وحده هو الذي يستحق أن يخشوه ويخافوه.
وقد علم سبحانه أن بعض المستحفظين على كتاب الله قد تراودهم أطماع الدنيا وهم يجدون أصحاب السلطان، وأصحاب المال، وأصحاب الشهوات، لا يريدون حكم الله ورسوله، فيتملقون شهوات هؤلاء جميعاً طمعاً في عرض الحياة الدنيا كما يقع من علماء السوء المحترفين في كل زمان ومكان، فالله ينادي هؤلاء بقوله: {وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (٤٤)} [المائدة: ٤٤].
وذلك لقاء السكوت.
أو لقاء التحريف.
أو لقاء الفتاوى المدخولة، وكل ما أخذوه -ولو كان ملك الدنيا- فهو قليل يباع به الدين، وتشترى به جهنم عن يقين.
فما أشنع خيانة المستأمن.
وما أبشع تفريط المستحفظ.
وما أخس تدليس المستشهد.
وما أخطر الحكم بغير ما أنزل الله.
وما أشد تحريف الكلم عن مواضعه؛ لموافاة أهواء ذوي السلطان على حساب كتاب الله سبحانه.
فما أخسر هؤلاء؟.
وما أشد حسابهم؟.
وما أعظم جرمهم؟.
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (٤٤)} [المائدة: ٤٤].
إن كيد الأعداء للمسلمين عجيب، وأعجب منه غفلة المسلمين عن هذا الكيد قروناً طويلة، وأعجب من هذا وذاك وجود العلاج بين أيديهم، وهم لا يفقهونه، ولا يعرفونه، ولا يستخدمونه.
ومن هذا الكيد اللئيم:
هذه الدراسات والبحوث الفقهية غير المطبقة في الحياة، إنها دراسة للتلهية، لمجرد الإيهام بأن لهذا الفقه مكاناً في الأرض التي تدرسه في معاهدها ومساجدها وهي لا تطبقه في واقع حياتها، وهو إيهام يبوء بالإثم من يشارك فيه ليخدر مشاعر الأمة بهذا الإيهام والتضليل، وإضاعة الأوقات في بحوث باردة لا تحرك ساكناً ولا تقيم معوجاً.
مختارات