فقه الاستقامة (٦)
وقد أمر الله عزَّ وجلَّ بعبادته وطاعته، وأرسل رسوله محمداً - صلى الله عليه وسلم - قدوة للبشرية إلى يوم القيامة.
فمن آمن به وأطاعه واقتدى به سعد في الدنيا والآخرة.
ومن عصاه واقتدى بمن خالفه شقي في الدنيا والآخرة.
وأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا أول الناس إيماناً به، وأحسنهم اقتداء به، وأعظمهم نصرة له؛ لأزموه ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل إليه.
فكانت لياليهم كليل النبي - صلى الله عليه وسلم -: صلاة وذكر، ودعاء وبكاء لهداية الأمة.
ونهارهم نهار النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعوة الناس إلى الله، وغشيانهم في مجالسهم، وتلاوة القرآن عليهم، وتعليمهم أحكام الدين، ومواساتهم بما يسرهم.
وظاهرهم ظاهر النبي - صلى الله عليه وسلم -: مزين بالسنن في جميع الأحوال، وباطنهم باطن النبي - صلى الله عليه وسلم -: مزين ومعمور بالإيمان والتقوى، واليقين وتعظيم الله، وخشيته ومحبته.
وقلوبهم على قلب النبي - صلى الله عليه وسلم -: شفقة ورحمة للناس، وتواضع لهم، ورغبة في هدايتهم وصلاحهم، وصبر على أذاهم.
وأموالهم أنفقوها في سبيل الله كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - من أجل إعلاء كلمة الله، وإكراماً لأضياف الإسلام، ومواساة للفقراء والمساكين وما تحتاجه النفس، وما يلزم للأهل والأولاد.
فهم أول الناس إسلاماً، وأحسنهم أخلاقاً، وأقربهم اقتداء بسيد المرسلين: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٠٠)} [التوبة: ١٠٠].
والله عزَّ وجلَّ خلقنا.
وهدانا.
واشترانا.
وشرفنا.
وكرمنا.
واجتبانا.
وحملنا ثلاث مسؤوليات كبرى وهي:
تعلم الدين.
والعمل بالدين.
والدعوة إلى الدين.
وهذه واجبة على كل أحد بحسب استطاعته.
وكل فساد في العالم سببه نسيان هذه المسؤوليات الثلاث، أو التقصير فيها، حتى صار الناس كالأنعام؛ بل أضل، يعيشون كيف شاءوا لا كما يشاء الله تعالى ويحب ويريد: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (٦٦) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (٦٧) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (٦٨)} [النساء: ٦٦ - ٦٨].
وإذا قام الإنسان بهذه المسؤوليات الثلاث صار أفضل الناس، يتعلم كيف يعبد الله، ويدعو إلى عبادة الله.
وإذا كانت أحوال الأسرة داخل البيت الزوج يعيش كيف شاء، والزوجة تعيش كيف تشاء، والولد يعيش كيف شاء، والبنت تعيش كيف تشاء، فهذا البيت لا يسمى بيت الإنسان، بل بيت الحيوان.
وكم البيوت في العالم الآن تعيش بهذا الترتيب كما تشاء، لا كما يشاء الله تبارك وتعالى ويحب.
وهكذا هذه الدنيا جعلها الله بيتاً للإنسان، فكم يكون الفساد في العالم بسبب خراب هذا البيت الكبير؟.
ولهذا بعث الله الأنبياء والرسل لإصلاح أحوال سكان هذا البيت الكبير بالإيمان بالله، وفعل ما يرضيه، واجتناب ما يسخطه.
وحياة الناس في الجاهلية فاسدة ومضطربة بسبب تعطيل هذه المسئوليات الثلاث.
فلما جاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالدين من عند الله أفهمهم مسئوليتهم، فعاشوا بترتيب الإنسان، وتركوا حياة الحيوان والشيطان.
ونقلهم بأمر الله وبدين الله من شر القرون إلى خير القرون:
نقلهم من الشرك إلى التوحيد.
ومن الكفر إلى الإيمان.
ومن الجهل إلى العلم.
ومن الظلم إلى العدل.
ومن القسوة إلى الرحمة.
فكانوا أحسن الناس استقامة كما قال الله عنهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (١١٠)} [آل عمران: ١١٠].
فعلينا القيام بأداء هذه المسؤوليات لتصلح أحوال هذا البيت الكبير ومن فيه، وتنكشف عنه الغموم والهموم، وتزول عنه الأسقام والآلام كما أمر الله سبحانه بقوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤)} [آل عمران: ١٠٤].
والشيطان لما كفر واستكبر وترك مسئوليته صار أكبر مضل ومفسد في العالم، فاستحق الطرد والإبعاد واللعنة والعذاب الأليم.
فكل من ترك مسئوليته من البشر صار من أتباع الشيطان.
يتعلم الضلال.
ويعمل بالضلال.
ويدعو إلى الضلال والنار.
كما قال سبحانه: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (٦)} [فاطر: ٦].
والعقل حين ينعزل عن منهج الله بعيداً عن الوحي فإنه حينئذ يتعرض للضلال والإنحراف وسوء الرؤية وفساد العمل.
فيرتاد التجارب، ويغير الأحكام، ويتخبط ذات اليمين وذات الشمال، وهو في ذلك كله يحطم كائنات بشرية عزيزة، ويدمر أجهزة إنسانية كريمة.
ولو اتبع الوحي الإلهي لكفى البشر هذا الشر كله، وجعل التجارب والتقلبات في الأشياء والآلات، وهي مجاله الطبيعي، والخسارة في النهاية مواد وأشياء لها أنفس وأرواح.
فالعقل وحده قاصر يتقلب ويضطرب تحت ضغط الشهوات والأهواء، فلا بدَّ له من ضابط آخر يضبطه ويحرسه ويرجع إليه وهو الوحي.
فالعقل يضل.
والفطرة وحدها تنحرف.
ولا عاصم لعقل ولا لفطرة إلا أن يكون الوحي هو الرائد الهادي.
فهو النور الذي يهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم كما قال سبحانه: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٥٣)} [الأنعام: ١٥٣].
والدين يأتي في حياتنا بقدر التضحية من أجله بالأنفس والأموال، والشهوات والأوقات، والأوطان.
فنضحي بالدنيا من أجل الدين.
وبالشهوات من أجل الأعمال.
والله يرضى عنا بقدر قوة الدين في حياتنا.
وإذا فكرنا في الموت والآخرة، وتذكرنا نعيم الجنة وعذاب الآخرة، سهل علينا التضحية بالدنيا، وامتثال أوامر الله وتقديمها على ما سواها.
وطالب الله والدار الآخرة لا يستقيم له سيره وطلبه إلا بحبسين:
الأول: حبس قلبه في طلبه ومطلوبه بذكر الله وطاعته، وفعل الواجبات والمندوبات التي يحبها الله.
الثاني: حبس قلبه عن الالتفات إلى غيره، كحبس جوارحه عن المعاصي والشهوات بترك المحرمات والمكروهات.
وكل خارج من الدنيا إما متخلص من الحبس وهو المؤمن، أو سائر إلى الحبس وهو الكافر: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (١٦)} [الروم: ١٤ - ١٦].
مختارات