فقه الاستقامة (١)
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢)} [فصلت: ٣٠ - ٣٢].
وقال الله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢)} [هود: ١١٢].
الاستقامة: أن يعبد المؤمن ربه وحده لا شريك له، ويستقيم على الأمر والنهي، فيعمل بطاعته، ويجتنب معصيته، ويؤدي فرائضه.
والمطلوب من العبد الاستقامة، وهي السداد في النيات والأقوال والأعمال، فإن لم يقدر عليها فالمقاربة، فإن نزل عن ذلك فالتفريط والإضاعة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَاعْلَمُوا أنْ لَنْ يُدْخِلَ أحَدَكُمْ عَمَلُهُ الْجَنَّةَ، وَأنَّ أحَبَّ الأعْمَالِ أدْوَمُهَا إِلَى الله وَإِنْ قَلَّ» متفق عليه (١).
فأمرهم بالاستقامة ثم بين أنهم لا يطيقونها، فنقلهم إلى المقاربة، وهي أن يقربوا من الاستقامة بحسب طاقتهم، ومع هذا فأخبرهم أن الاستقامة والمقاربة لا تنجي يوم القيامة.
فلا يركن أحد إلى عمله ولا يعجب به، ولا يرى أن نجاته به، بل إنما نجاته برحمة الله وعفوه وفضله.
والاستقامة تتعلق بالنيات والأقوال والأعمال والأحوال، والاستقامة فيها وقوعها لله، وبالله، وعلى أمر الله.
والاستقامة للحال بمنزلة الروح للبدن، فكما أن البدن إذا خلا عن الروح مات، فكذلك الحال إذا خلا عن الاستقامة فهو فاسد.
وتحصل الاستقامة بثلاثة أشياء:
الأول: تحقيق (لا إله إلا الله) في قلب العبد.
فيتيقن أن الخالق الرازق المالك المتصرف في الكون كله هو الله وحده لا شريك له، فيتوجه إليه وحده في جميع أحواله.
الثاني: تحقيق شهادة (أن محمداً رسول الله) بأن يعلم أن الوصول إلى الله عن طريق هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيؤثر حياته على حياة الشهوة والهوى واللعب واللهو.
الثالث: أن يعيش حياته بالإيمان والأعمال الصالحة كأنه عابر سبيل ومسافر من هذه الدنيا كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عَابِرُ سَبِيلٍ» أخرجه البخاري (٢).
وهذه الأمة لها مقصد وهو العبادة.
ولها وظيفة وهي الدعوة إلى الله، وكلما تجاوز الإنسان مقصده، وترك وظيفته أصيب بآفتين:
الأولى: الإحساس بالتعب كما قال سبحانه عن موسى - صلى الله عليه وسلم -: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (٦٢)} [الكهف: ٦٢].
الثانية: مرافقة الشيطان له، فإذا غفل عن الرحمن وأعرض عنه، رافقه الشيطان يزين له المعاصي والمنكرات، والقبائح والكبائر ويؤزه إليها كما قال سبحانه: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧)} [الزخرف: ٣٦، ٣٧].
وهذه الأمة الآن في كثير من البلاد قد تجاوزت مقصد حياتها، وتركت وظيفتها، وظلمت نفسها، وظلمت غيرها، واستقلت المراكب لعمارة الدنيا فماذا حصل؟.
عامة بلاد الإسلام في شقاء وتعب.
وذل وهوان.
ملوكها وأمراؤها.
تجارها وفقراؤها.
رجالها ونساؤها.
أبناؤها وبناتها.
إن الأمة الأسلامية في أغلب ديار الإسلام قد تجاوزت مقصد حياتها، وسافرت إلى الدنيا، فهي الآن عليلة تشكو من كل شيء في أخلاقها ومعاشراتها، في معاملاتها وكسبها، في بيوتها وأسواقها.
لأنها تجاوزت مقصد حياتها فرافقها الشيطان في جميع أحوالها، لا يبيع الإنسان ويشتري إلا والشيطان معه، ولا يأكل ولا يشرب إلا والشيطان معه، ولا يلبس إلا والشيطان معه، ولا ينفق إلا والشيطان معه، ولا يقوم ولا يقعد ولا يمشي إلا والشيطان معه.
ولا صلاح للبشرية إلا بأن ترجع الأمة الإسلامية إلى مقصدها ووظيفتها، بعبادة الله وحده لا شريك له، وطاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والدعوة إلى الله.
فموسى - صلى الله عليه وسلم - لما جاوز مقصده قال لفتاه: {آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (٦٢)} [الكهف: ٦٢].
فأحس موسى بالتعب لما جاوز مقصده، ولا يتخلص من هذا التعب، ولا يسلم من الشيطان إلا بالرجوع إلى مقصده {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (٦٤) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (٦٥)} [الكهف: ٦٤، ٦٥].
فلما رجعا ظفرا بالخير ونالا مرادهما.
وقد منَّ الله على هذه الأمة، وطلب منها أن تستقيم في جميع أمورها، وأن تعيش كما عاش الأنبياء والمرسلون؛ لأنها قدوة البشرية إلى يوم القيامة كما قال سبحانه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: ١١٠].
ولكن أكثر الأمة ترك مقصد حياته.
فصار كثير من المسلمين اليوم يعيشون عيشة اليهود والنصارى في أفكارهم وأعمالهم، وفي كسبهم ومعاملاتهم، وفي سائر شعب حياتهم في الدنيا يرافقون ويشاركون اليهود والنصارى والشياطين في طريقة حياتهم، وفي الآخرة يريدون مرافقة الأنبياء والمرسلين في الجنة، وهذا ليس من سنة الله، بل سنة الله معلومة لا تتبدل: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (٦٩) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (٧٠)} [النساء: ٦٩، ٧٠].
فالأمة إذا تركت الحق حركها الشيطان بالباطل.
وإذا لم تقتدِ بالأنبياء والمرسلين ابتليت بالاقتداء بأحفاد القردة والخنازير والشياطين كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ».
قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قال: «فَمَنْ» متفق عليه (٣).
وحسب أعمال البشر يرسل الله تبارك وتعالى الأحوال على العباد.
فمن كانت أعماله طيبة نزلت عليه من الله أحوال طيبة، ومن كانت أعماله سيئة نزلت عليه أحوال سيئة كما قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦)} [الأعراف: ٩٦].
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٦٤٦٤)، واللفظ له، ومسلم برقم (٧٨٢).
(٢) أخرجه البخاري برقم (٦٤١٦).
(٣) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٣٤٥٦)، واللفظ له، ومسلم برقم (٢٦٦٩).
مختارات