فقه الاستقامة (٢)
فإذا كانت الأعمال التي تصدر من الجسد موافقة لأوامر الله، وعلى هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهي أعمال صالحة.
فالعين إذا رأت حسب أمر الله.
والأذن إذا سمعت حسب أمر الله.
واللسان إذا تكلم حسب أمر الله.
والبدن عَبَدَ الله حسب أمر الله، فهذه أعمال صالحة تسعد الإنسان في دنياه وآخرته.
والإنسان آلة الأعمال، فهو إما أن يتحرك بطاعة أو يتحرك بمعصية فهو يومياً ينتج أعمالاً كثيرة.
والملائكة كل يوم يتعاقبون على البشر، ويصعدون بسجلات الأعمال إلى ربهم، ويعرضونها أمام الله، ثم يرسل آخرون كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلاةِ الْفَجْرِ وَصَلاةِ الْعَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْألُهُمْ رَبُّهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فَيَقُولُونَ: تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ» متفق عليه (١).
فسبحان من أحصى كل شيء عدداً في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
ثم الله عزَّ وجلَّ ينزل الأحوال حسب الأعمال خيراً كانت أو شراً: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (١٠)} [الليل: ٥ - ١٠].
ولله على كل قلب هجرتان:
الأولى: هجرة إلى الله بالتوحيد والإيمان.
والإخلاص والتقوى.
والإنابة والمحبة.
والخوف والرجاء.
والتوكل والاستعانة.
وعدم الالتفات إلى ما سواه.
الثانية: هجرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتحكيم له، والتسليم والانقياد لحكمه، وتلقي الأحكام من مشكاته.
فمن قام بهذه الهجرة فهو من أسعد الناس في الدنيا والآخرة كما قال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧)} [النحل: ٩٧].
وأصول الدين الإسلامي ثلاثة:
الإيمان.
والأحكام.
والأخلاق.
فالإيمان: هو اليقين على ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وأساسه العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
أما الأحكام: فهي ما شرعه الله لعباده من الأعمال والأوامر التي يسيرون عليها، والمراد بها الأعمال الظاهرة التي تقوم بها الجوارح كالعبادات والمعاملات.
والشريعة لا تنفك عن العقيدة، ولا يتم قبول العمل إلا بهما جميعاً.
والعقيدة لن تثمر والشريعة لن تؤثر في حياة الإنسان إلا حين يتحلى الإنسان بصفة الإحسان في كل شيء.
فالإحسان أعظم الأخلاق وأعلاها، وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
فيجب على العبد أن يحسن المعاملة مع ربه، ومع الناس، وأن يحسن في عبادته كلها، وأن يحسن في جميع أموره كما أمر الله ورسوله.
والاستقامة: ثمرة الإيمان، وبها يحصل كمال التقوى، وكمال العمل.
وكمال العمل يحصل بتطبيق حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والقيام بجهد محمد - صلى الله عليه وسلم -، -العبادة والدعوة إلى الله-.
والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل ممن لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم.
وعند الفتن يلزم جماعة المسلمين وإمامهم، فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام اعتزلهم.
لكن ينبغي أن ينوي بعزلته كف شره عن الناس، ثم طلب السلامة من شر الأشرار، ثم الخلاص من آفة القصور عن القيام بحقوق المسلمين، ثم تجريد الهمة لعبادة الله أبداً، ثم ليكن في خلوته مواظباً على العلم والعمل، والذكر والفكر، والاستغناء عن الناس، وعدم الإصغاء إلى أراجيف البلد، والقناعة باليسير من المعيشة، وتذكر الموت.
والعزلة والخلطة تختلف بحسب الأحوال والأشخاص، لكن في الأصل الخلطة أفضل.
ولا كمال للعبد أعلى وأشرف من كونه مستغرق القلب بمعرفة الله عزَّ وجلَّ.
مستغرق اللسان بذكره.
مستغرق الأعضاء والجوارح بعبودية الله.
فإذا كان كذلك أحبه الله ثم أنزل له القبول والمحبة في الأرض، فصارت الألسنة جارية بمدحه، والقلوب مجبولة على حبه كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (٩٦)} [مريم: ٩٦].
وكما أن النفس تحب تكميل الشهوات، فكذلك الله عزَّ وجلَّ يحب تكميل الأوامر التي هي الدين، وهي:
الإيمان.
والعبادات.
والمعاملات.
والمعاشرات.
والأخلاق.
فالإيمان: أساس كل شيء.
والعبادات: تنظم علاقة العبد مع ربه سبحانه، وتقوي إيمانه، ليكون ذاكراً لربه حامداً له.
والمعاملات والمعاشرات والأخلاق تنظم علاقة العبد مع العباد، ليكون الجميع كالجسد الواحد.
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٥٥٥)، ومسلم برقم (٦٣٢) واللفظ له.
مختارات