تدبر سورة البقرة
لقد علَّمنا الله في مفتتح كتابه أن نطلب منه الهداية وفرض علينا أن ندعوه سبعةَ عشرَ مرةً في اليوم والليلة.. أن يهدينا الصراط المستقيم كلما صلَّينا وقرأنا الفاتحة أم الكتاب..
ثم دلَّنا مباشرةً على أعظم أسباب تلك الهداية في أول السورة الثانية بين دفتي المصحف -البقرة- فقال: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]..
فهاهنا إجابة دعوتكم أيها المؤمنون وبين دفتيه مصدر هدايتكم التي تطلبون {فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}..
فتذكر دومًا وأنت تدعو يوميًا في صلاتك بهداية التوفيق إلى الصراط المستقيم.. أن الله قد أجابك في الصفحة المقابلة ودلَّك على مصدر معرفة الطريق ومحل هداية الإرشاد والتوجيه فإن ضللت بعد ذلك فأنت من أعرض عن مصدر تلك الهداية ولا تلومن إلا نفسك فلقد علمت: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء من الآية:9].
*******
{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة من الآية:71]..
{وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}..
ها هنا مربط الفرس..
ومكمن المشكلة، وموطن الداء..
إن الخلل الحقيقي إنما هو في مدى إسلامهم لله جل وعلا..
في مستوى استسلامهم لأمره..
في درجة امتثالهم لمراده..
{وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ}..
هي جملة جامعة مانعة، تُعبِّر عن مجمل خصالهم، ومختصر نعوتهم..
الحقيقة الجلية أنهم يرفضون حكم الله عليهم، ويجدون حرجًا في صدورهم من سلطانه، وضعفًا في اليقين بموعوده، فهم للأسف قوم متمردون..
عن أمر ربهم ناشزون..
شعارهم سمعنا وعصينا.
الفسق ديدنهم، والجدال والمراء والشبهة دأبهم..
فماذا تنتظر منهم؟!
********
وفي أولِ نداءٍ للمؤمنين بين دفتي المصحف تجد نهيًا لهم عن قول: {رَاعِنَا} للنبي صلى الله عليه وسلم، واتباع فعل اليهود في لي أعناق الكلام وإساءة الأدب مع الأنبياء، وتجد توجيهًا بحسن الأدب والدقة في اختيار اللفظ غير الموهم الذي لا يُساء فهمه أو تبطل دلالته.. وهذا أدبٌ عظيمٌ جاء مقترنًا بأول نداءٍ للمؤمنين في كتاب ربِّ العالمين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:104].
فتأمَّل -يرحمك الله- قيمة التأدُّب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهمية توقيره، وتدبر خطورة لي عُنق الكلام والتلاعب بالألفاظ، وإرادة باطن مختلف عن ظاهرها..
***********
وربما يتوارى الإيمان شيئًا ما في قلب المسلم فتحجبه طبقات الران، وتؤخره سحائب الغفلة والنسيان.. فيكون بحاجةٍ ماسَّة إلى هزَّةٍ زلزالية تنقشع على إثرها سحائب الغفلة، وتتصدع بها طبقات الران.. ليعلو الإيمان مجددًا، وليغشى بريق نوره جنبات القلب مرةً أخرى..
وتلك الهزَّة الزلزالية قد تكون بابتلاء يحسبه المرء شرًّا له! وهو في الحقيقة خير.. وسبب يقظة تكون بعد ذلك سبيلًا إلى جنة ورضوان ونصر من الرحمن..
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُو} [البقرة من الآية:214].
************
والتوَّاب والمُتطهِّر يتشابهان، وفي خصائصهما يجتمعان..
فكلاهما مُتخلِّص من الدرن مُتنزِّه عن الدنس مستبرئ من النجس؛ أما الأول فهو بتوبته يتخلَّص من درن الذنوب ويُنزِّه نفسه من دنس المعاصي، ويستبرئ من نجس الخطايا كما يغسل المتطهِّر بدنه، ويُطهِّر جسمه من النجس الحسي.. ويظهر ذلك جليًّا في قول الغامدية رضي الله عنها: " أصبتُ حدًا فطهرني "..
من هنا تفهم الاقتران بين محبة للتوابين ومحبته للمتطهرين..
فحقيقة فعلهم الطهارة وأصل خصالهم النظافة حسية كانت أو معنوية: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة من الآية:222]
***********
ومن بين الآيات التي يُكلِّمنا الله فيها عن أحكام الطلاق وآدابه.. تبرز آية قد تبدو لأول وهلة عجيبة في هذا الموضع الفقهي.. الذي يتعامل معه الناس بنوع من الجفاء -إلا من رحم الله- تجد بين آيات أحكام الطلاق قوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238].
ثم الكلام عن الصلاة أثناء الحرب واشتداد الخوف والكلام عن ذكر الله حين عودة الأمن.. بعدها يعود الحديث عن الأحكام وتفاصيل المعاملات الشرعية من جديد..
والحقيقة أن العجب يزول حين تدرك أن الصلاة ليست انفصالًا حسيًا عن واقع المرء.. بل يفترض أن تمتد آثارها لتسيطر برحيقها على سلوك المرء ومعاملاته الحياتية، فتضبط ذلك السلوك وتكون دافعا للمرء أن يتقي الله في تلك المعاملات..
وكذلك ينبغي أن يعي وهو في خضم تلك المعاملات الحاسمة واللحظات الفاصلة -ومن أخطرها الطلاق، وبلا شك الحرب- أن الصلاة عليه كتاب موقوت ينبغي أن يحافظ عليه مهما كانت الضغوط.. وأنها الصلة التي تربطه بالله وتُعينه على الثبات في مواجهة تلك الضغوط والتعامل فيها بما يرضيه..
***********
ومن أخطر خصال المنافقين.. أنهم يكذبون ويخادعون، حتى تتشرَّب قلوبهم الكذب في نهاية الأمر.. حتى يكادوا أن يصدقوه فلا يشعروا بمصيبتهم ولا يدركوا حقيقة خديعتهم..
تأمَّل وصف ربك لهم:
{وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة من الآية:9].
{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة:12].
{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ} [البقرة من الآية:13].
وهذا الوصف يجعلك تجتهد أكثر في أن تتعوَّذ من النفاق، وتدعو ربك أن يُجنِّبك إِيَّاه فقد يُصيب المرء شيئًا منه وهو لا يعلم..
وقد يخدع نفسه وهو لا يشعر!
انتبه..
وهو لا يشعر!
عافانا الله وإِيَّاكم من النفاق وخصاله..
مختارات