فقه المحبة (٢)
والقرآن والسنة مملوآن بذكر من يحبه الله سبحانه من عباده المؤمنين، وذكر ما يحبه من أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم.
كقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢)} [البقرة: ٢٢٢].
وقوله سبحانه: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦)} [آل عمران: ١٤٦].
وقوله سبحانه: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)} [آل عمران: ١٣٤].
وقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩)} [آل عمران: ١٥٩].
وقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)} [التوبة: ٤].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنَّ أحَبَّ الأعْمَالِ إِلَى اللهِ مَا دُووِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ» متفق عليه (١).
والمحبة على ثلاث درجات:
الأولى: محبة تقطع الوساوس، وتلذ الخدمة، وتسلي عن المصائب.
فالوساوس والمحبة متناقضان، فإن المحبة توجب ذكر المحبوب، والوساوس تقتضي غيبته عنه، حتى توسوس له نفسه بغيره، والمحب يلتذ بخدمة محبوبه، فيرتفع عن التعب الذي يراه الخلي في أثناء الخدمة.
والمحبة تسلي عن المصائب فإن المحب يجد في لذة المحبة ما ينسيه المصائب التي يصيبه بها حبيبه.
هي محبة تنبت من مطالعة العبد منة الله عليه، ورؤية نعمه الظاهرة والباطنة، وبقدر ذلك تكون المحبة، فإن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها.
وليس للعبد قطّ إحسان إلا من الله، ولا إساءة إلا من الشيطان، ومن أعظم منة الله على عبده هدايته، وتأهيله لمحبته ومعرفته، وإرادة وجهه، ومتابعة خليله.
وأصل هذا نور يقذفه الله في قلب العبد يميز به بين الحق والباطل، وهذا النور متفاوت في قلوب المؤمنين.
وتثبت هذه المحبة باتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أقواله وأعماله وأخلاقه، فبحسب هذا الاتباع يكون منشأ هذه المحبة وثباتها وقوتها، وبحسب نقصانه يكون نقصانها.
وهذا الاتباع يوجب محبة الرب لعبده، ومحبة العبد لربه، وليس الشأن في أن تحب الله فقط، بل الشأن أن يحبك الله، والله لا يحبك إلا إذا اتبعت خليله - صلى الله عليه وسلم - ظاهراً وباطناً، وصدقت خبره، وأطعت أمره، وآثرته طوعاً.
الثانية: محبة تبعث على إيثار الحق على غيره، وتلهج اللسان بذكره، وتعلق القلب بشهوده، ويتم ذلك بمطالعة صفات الرب جلَّ جلاله، وشهود معاني أسمائه، والنظر في معاني آياته المسموعة، والنظر إلى آياته المشهودة في الأنفس والآفاق.
ولكمال هذه المحبة فإنها تقتضي من المحب أن يترك لأجل الحق ما سواه، فيؤثره على غيره، وإذا أحب الله عبداً أنشأ في قلبه محبته.
الثالثة: محبة خاطفة تخطف قلوب المحبين لما يبدو لهم من جمال محبوبهم، وهذه أعلى درجات المحبة.
والعقل والشرع والفطرة كلها تدعوا إلى محبته سبحانه، بل إلى توحيده في المحبة.
وقلب المحب دائماً في سفر لا ينقضي نحو محبوبه، وقوة تعلق المحب بمحبوبه توجب له أن لا يستقر قلبه دون الوصول إليه.
ويظهر صدق المحبة في أربعة مواطن:
أحدهما: عند أخذ الإنسان مضجعه، وتفرغ حواسه وجوارحه من الشواغل، واجتماع قلبه على ما يحبه، فإنه لا ينام إلا على ذكر من يحبه، وشغل قلبه به.
الثاني: عند انتباهه من النوم، فأول شيء يسبق إلى قلبه ذكر محبوبه، فإنه إذا استيقظ ورُدَّت إليه روحه رُدَّ معها إليه ذكر محبوبه الذي قد كان غاب عنه في النوم.
الثالث: عند الصلاة، فإنها محك الأحوال، وميزان الإيمان، وبها يوزن إيمان الإنسان ومقدار قربه من الله، فهي محل المناجاة والقربة، ولا شيء أقر لعين المحب ولا ألذ لقلبه منها إذا كان محباً، فإنه لا شيء آثر عند المحب ولا أطيب له من خلوته بمحبوبه ومناجاته له، ومثوله بين يديه وقد أقبل محبوبه عليه.
فإذا قام العبد إلى الصلاة هرب وفر مما سوى الله إليه، وآوى عنده، واطمأن بذكره، وقرت عينه بالمثول بين يديه ومناجاته.
فلا يزن العبد إيمانه ومحبته لله بمثل ميزان الصلاة.
الرابع: عند الشدائد والأهوال، فإن القلب في هذا الموطن لا يذكر إلا أحب الأشياء، ولا يهرب إلا إلى محبوبه الأعظم عنده، فعند الشدائد والأهوال يشتد خوف القلب من فوات أحب الأشياء إليه، وهي حياته التي لم يكن يؤثرها إلا لقربة من محبوبة، فهو إنما يحب حياته لتنعمه بمحبوبه.
فإذا خاف فوتها، بدر إلى قلبه ذكر المحبوب الذي يفوت بفوات حياته من خالق أو مخلوق محبوب.
ولهذه المحبة علامات:
منها إدمان النظر إلى المحبوب.
ومنها إغضاؤه عن نظر محبوبه إليه مهابة له، وحياء منه، وتعظيماً له.
ومنها كثرة ذكر المحبوب، فمن أحب شيئاً أكثر من ذكره بقلبه ولسانه.
ومنها الانقياد لأمر المحبوب في أي حال.
ومنها قلة صبر المحب عن المحبوب، فينصرف صبره إلى الصبر على طاعته، والصبر عن معصيته، والصبر على أحكامه.
ومنها الإسراع إليه في السير.
ومنها محبة أحباب محبوبه.
ومنها الإقبال على حديثه.
وإلقاء سمعه كله إليه.
.
فإن أعوزه حديثه بنفسه فأحب شيء لديه الحديث عنه.
ومنها غيرته على محبوبه.
.
وغيرته لمحبوبه.
ومنها حب الوحدة والأنس بالخلوة به.
ومنها خضوعه لمحبوبه.
ومنها هجر كل سبب يقصيه عن محبوبه.
وارتياحه لكل سبب يدنيه من محبوبه.
ومنها بذل كل ما يملك في سبيل مرضاة محبوبه كما قال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥)} [الحجرات: ١٥].
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري برقم (٥٨٦١)، ومسلم برقم (٧٨٢)، واللفظ له.
مختارات