فما الظن بفرح المعطي؟!
وأنت إذا فرضت الحيوان بجملته معدوما، فمن يرزق الرزاق سبحانه؟ وإذا فرضت المعصية والخطيئة منتفية من العالم، فلمن يغفر؟ وعمن يعفو؟ وعلى من يتوب ويحلم؟ وإذا فرضت الفاقات كلها قد سُدَّت، والعبيد أغنياء معافون، فأين السؤال والتضرع والابتهال؟ والإجابة وشهود الفضل والمنة، والتخصيص بالإنعام والإكرام؟
فسبحان من تعرف إلى خلقه بجميع أنواع التعرفات، ودلهم عليه بأنواع الدلالات، وفتح لهم إليه جميع الطرقات، ثم نصب إليه الصراط المستقيم، وعرفهم به ودلهم عليه {ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم} [الأنفال: ٤٢].
ومنها: السر الأعظم، الذي لا تقتحمه العبارة، ولا تجسر عليه الإشارة، ولا ينادي عليه منادي الإيمان على رءوس الأشهاد، بل شهدته قلوب خواص العباد، فازدادت به معرفة لربها ومحبة له، وطمأنينة به وشوقا إليه، ولهجا بذكره، وشهودا لبره، ولطفه وكرمه وإحسانه، ومطالعة لسر العبودية، وإشرافا على حقيقة الإلهية، وهو ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لله أفرح بتوبة عبده - حين يتوب إليه - من أحدكم، كان على راحلة بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال - من شدة الفرح - اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح» هذا لفظ مسلم.
فاعلم أن الله سبحانه وتعالى اختص نوع الإنسان من بين خلقه بأن كرمه وفضله، وشرفه، وخلقه لنفسه، وخلق كل شيء له، وخصه من معرفته ومحبته وقربه وإكرامه بما لم يعطه غيره، وسخر له ما في سماواته وأرضه وما بينهما، حتى ملائكته - الذين هم أهل قربه - استخدمهم له، وجعلهم حفظة له في منامه ويقظته، وظعنه وإقامته، وأنزل إليه وعليه كتبه، وأرسله وأرسل إليه، وخاطبه وكلمه منه إليه، واتخذ منهم الخليل والكليم، والأولياء والخواص والأحبار، وجعلهم معدن أسراره، ومحل حكمته، وموضع حبه، وخلق لهم الجنة والنار، وخلق الأمر، والثواب والعقاب مداره على النوع الإنساني، فإنه خلاصة الخلق، وهو المقصود بالأمر والنهي، وعليه الثواب والعقاب.
فللإنسان شأن ليس لسائر المخلوقات، وقد خلق أباه بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه أسماء كل شيء، وأظهر فضله على الملائكة فمن دونهم من جميع المخلوقات، وطرد إبليس عن قربه، وأبعده عن بابه، إذ لم يسجد له مع الساجدين، واتخذه عدوا له.
فالمؤمن من نوع الإنسان خير البرية على الإطلاق، وخيرة الله من العالمين، فإنه خلقه ليتم نعمته عليه، وليتواتر إحسانه إليه، وليخصه من كرامته وفضله بما لم تنله أمنيته، ولم يخطر على باله ولم يشعر به، ليسأله من المواهب والعطايا الباطنة والظاهرة العاجلة والآجلة، التي لا تنال إلا بمحبته، ولا تنال محبته إلا بطاعته، وإيثاره على ما سواه، فاتخذه محبوبا له، وأعد له أفضل ما يعده محب غني قادر جواد لمحبوبه إذا قدم عليه، وعهد إليه عهدا تقدم إليه فيه بأوامره ونواهيه، وأعلمه في عهده ما يقربه إليه، ويزيده محبة له وكرامة عليه، وما يبعده منه ويسخطه عليه، ويسقطه من عينه.
وللمحبوب عدو، هو أبغض خلقه إليه، قد جاهره بالعداوة، وأمر عباده أن يكون دينهم وطاعتهم وعبادتهم له، دون وليهم ومعبودهم الحق، واستقطع عباده، واتخذ منهم حزبا ظاهروه ووالوه على ربهم، وكانوا أعداء له مع هذا العدو، يدعون إلى سخطه، ويطعنون في ربوبيته وإلهيته ووحدانيته، ويسبونه ويكذبونه، ويفتنون أولياءه، ويؤذونهم بأنواع الأذى، ويجهدون على إعدامهم من الوجود وإقامة الدولة لهم، ومحو كل ما يحبه الله ويرضاه، وتبديله بكل ما يسخطه ويكرهه، فعرفه بهذا العدو وطرائقهم وأعمالهم وما لهم، وحذره موالاتهم والدخول في زمرتهم والكون معهم.
وأخبره في عهده أنه أجود الأجودين، وأكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين، وأنه سبقت رحمته غضبه، وحلمه عقوبته، وعفوه مؤاخذته، وأنه قد أفاض على خلقه النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وأنه يحب الإحسان والجود والعطاء والبر، وأن الفضل كله بيده، والخير كله منه، والجود كله له، وأحبُّ ما إليه أن يجود على عباده ويوسعهم فضلا، ويغمرهم إحسانا وجودا، ويُتِمَّ عليهم نعمته، ويضاعف لديهم منته، ويتعرف إليهم بأوصافه وأسمائه، ويتحبب إليهم بنعمه وآلائه.
فهو الجواد لذاته، وَجُودُ كل جواد خلقه الله، ويخلقه أبدا أقلُّ من ذرة بالقياس إلى جوده، فليس الجواد على الإطلاق إلا هو، وَجُودُ كل جواد فمن جوده، ومحبته للجود والإعطاء والإحسان، والبر والإنعام والإفضال فوق ما يخطر ببال الخلق، أو يدور في أوهامهم، وفرحه بعطائه وجوده وإفضاله أشد من فرح الآخذ بما يعطاه ويأخذه، أحوج ما هو إليه أعظم ما كان قدرا، فإذا اجتمع شدة الحاجة وعظم قدر العطية والنفع بها، فما الظن بفرح المعطي؟
مختارات