درجات الأخلاق (٣)
والخُلق على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: أن يعرف العبد مقام الناس، ومقاديرهم، وجريان الأحكام القدرية عليهم، وإنهم مقيدون بالقدر لا خروج لهم عنه البتة، وأنهم محبوسون في قدرتهم وطاقتهم لا يمكنهم تجاوزها إلى غيرها، وأنهم موقوفون على الحكم الكوني القدري لا يتعدونه، فيحسن خلقه معهم.
وبهذه المعرفة يستفيد العبد ثلاثة أشياء:
أمن الخلق منه.. ومحبة الخلق له.. ونجاة الخلق به.
فالعبد العارف إذا نظر إلى الخلق بعين الحقيقة لم يطالبهم بما لا يقدرون عليه فيعفو عنهم، ويأمنوا من تكليفه إياهم بما لا يقدرون عليه، وأمنوا لائمته، فإنه في هذه الحال عاذر لهم فيما يجري عليهم من الأحكام فيما لم يأمر الشرع بإقامته فيهم.
لأنهم إذا كانوا محبوسين في طاقاتهم، فينبغي مطالبتهم بما يطالب به المحبوس، وعذرهم بما يعذر به المحبوس.
وإذا بدا منهم في حقك تقصير أو إساءة أو تفريط فلا تقابلهم به، ولا تخاصمهم، بل اغفر لهم ذلك واعذرهم، نظراً إلى جريان الأحكام عليهم وأنهم آلة.
وهذا ما يجلب محبتهم له، ويرشدهم إلى القبول منه، وتلقي ما يأمرهم به، وما ينهاهم عنه أحسن التلقي.
الدرجة الثانية: تحسين خلقك مع الحق سبحانه.
وتحسينه منك أن تعلم أن كل ما يأتي منك يوجب عذراً، وأن كل ما يأتي من الحق يوجب شكراً، وأن لا ترى له من الوفاء بداً.فتعلم أنك ناقص، وكل ما يأتي من الناقص ناقص يوجب اعتذار العبد منه لا محالة، فعلى العبد أن يعتذر إلى ربه من كل ما يأتي به من خير وشر.
أما الشر فظاهر، وأما الخير فيعتذر من نقصانه أو تأخيره، ولا يراه صالحا لربه، فهو مع إحسانه معتذر وَجِل.
ولذلك مدح الله أولياءه بالوجل كما قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (٦٠)} [المؤمنون: ٦٠].
والحامل للعبد على هذا الاعتذار أمران:
أحدهما: شهود تقصيره في العمل ونقصانه.
الثاني: صدق محبته لربه، فإن المحب الصادق يتقرب إلى محبوبه بغاية إمكانه وهو معتذر إليه، مستح منه، يرى أن قدره فوقه وأجل منه.
ويعلم أن كل ما يصدر منه سبحانه إلى عبده نافع عظيم، وأنه يوجب عليه الشكر، وأنه عاجز عن شكره، ولا يتبين هذا إلا في المحبة الصادقة، فإن المحب يستكثر من محبوبه كل ما يناله منه.
ويعامل الحق سبحانه بمقتضى الاعتذار من كل ما منه، والشكر على كل ما من ربه، وهذا عقد لازم لك أبداً، لا ترى من الوفاء به بداً.
الدرجة الثالثة: الاشتغال بالله عزَّ وجلَّ عن كل ما سواه، فيتقرب إليه بما يحب من الأقوال والأعمال، ويستأنس به، ويستوحش من غيره، ويتلذذ بعبادته ومناجاته، ويقف أمام ربه وقوف العبد العاجز المقصر المحتاج:
معظماً لربه.. حامداً له.. مستعيناً به.. مستغفراً له.. سائلاً له.. معتذراً إليه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)} [الأنعام: ١٦٢،١٦٣].
مختارات