81. أبو عبيد بن مسعود الثقفي
أبو عبيد بن مسعود الثقفي
"قائد وقعة الجسر"
ها هو ذا خليفة رسول الله أبو بكر الصديق موسدا (١) على فراشه؛ مترقبا قضاء الله فيه؛ بعد أن ثقلت عليه وطأة المرض.
وها هم أولاء أهل المدينة يترددون على بيت خليفة المسلمين وجلين مشفقين (٢).
وفيما كان الصديق على حالته هذه؛ دعا خليفته من بعده وقال:
يا عمر؛ إني لأرجو أن أموت في يومي هذا … فإذا أنا مت؛ فلا تصبحن حتى تندب الناس إلى قتال الفرس.
ثم ابعث من يستجيب لك منهم مددا (٣) لجيش المسلمين المقاتل هناك … ولا تشغلتكم عن أمر دينكم مصيبة مهما جلت (٤).
ثم ما لبث أن أسلم الروح قبل مغيب شمس ذلك اليوم.
* * *
وارى الفاروق صاحبه التراب ليلا … وما إن طلع الصباح حتى كان أول عمل قام به أنه ندب (٥) الناس لقتال الفرس، ورغبهم في ذلك أشد الترغيب.
لكنه فوجئ بأنه لم يستجب له منهم أحد، وذلك لشدة خشيتهم من
الفرس، وكثرة ما سمعوه عن بأسهم (٦) وبطشهم.
فلما كان اليوم التالي دعا الناس كرة (٧) أخرى؛ فلم يلبه منهم أحد …
فلما كان اليوم الثالث ندبهم مرة ثالثة؛ فلم ينتدب له منهم أحد.
.
فلما كان اليوم الرابع؛ خرج إلى الناس ضيق الصدر كاسف البال (٨) ودعاهم إلى قتال الفرس؛ فقام إليه أبو عبيد بن مسعود الثقفي وقال:
يا أمير المؤمنين؛ لقد سمعنا دعوتك وأطعنا أمرك، وأنا أول من يستجيب لك ومعي أولادي وأهلي وعشيرتي.
فانفرجت (٩) أسارير عمر ﵁، ودبت الحمية (١٠) في صدور الرجال … فأقبلوا على الانضمام إلى الجيش الغازي في سبيل الله.
* * *
ولما اكتمل جمع المسلمين؛ قال قائل منهم لعمر بن الخطاب:
ول على الجيش أحد السابقين إلى الإسلام من المهاجرين أو الأنصار؛ فهم أرفع الناس قدرا، وأعظمهم شأنا (١١).
فقال: لا والله! …
إنما رفع قدرهم وعظم شأنهم سبقهم إلى الصالحات، ومسارعتهم إلى لقاء أعداء الله.
فإذا تثاقلوا (١٢) عن الجهاد في سبيل الله، وخف (١٣) إليه أحد غيرهم؛ كان هو السابق من دونهم، والأولى بالرياسة عليهم …
والله! لا أؤمر عليهم إلا أول المسلمين استجابة لداعي الجهاد.
ثم دعا أبا عبيد بن مسعود التقفي، وعقد له الراية على جيش المسلمين المتوجه لحرب الفرس.
* * *
مضى أبو عبيد بجيشه البالغ خمسة آلاف مجاهد ومعه أخوه، وأولاده الثلاثة، وزوجته.
وكان كلما مر بحي من أحياء العرب حضهم (١٤) على الجهاد، ورغبهم في الاستشهاد …
فما زال الجيش ينمو ويكبر؛ حتى بلغ عشرة آلاف مجاهد.
* * *
وصلت أنباء جيش المسلمين القادم بقيادة أبي عبيد إلى مسامع الفرس؛ فحشدوا جنودهم، وعبؤوا (١٥) قواهم، وعزموا على أن يضربوا المسلمين ضربة قاضية (١٦) لا تقوم لهم بعدها قائمة، وجعلوا على قيادة جيشهم عظيما من عظمائهم يدعى "جابان"، وجعلوا على ميمنته (١٧) فارسا من مشاهير فرسانهم يقال له "مردان".
* * *
التقى الجمعان في النمارق (١٨)، ودارت بينهما رحى معركة طحون (١٩) أبدى فيها جيش المسلمين بقيادة أبي عبيد من ضروب البسالة والبذل؛ ما زلزل (٢٠) أقدام الفرس، وألحق بهم الهزيمة المنكرة، ومزقهم شر ممزق …
فوقع "جابان" قائد الجيش في أسر جندي من جنود المسلمين يدعى مطر بن فضة التيمي، ووقع "مردان" في أسر جندي آخر يدعى أكتل بن شماخ العكلي.
فقتل أكتل أسيره.
.
أما "جابان"؛ فقد أدرك أن آسره لم يعرفه؛ فجعل يتذلل له، ويظهر له الضعف والعجز وتقدم السن، ويسأله أن يؤمنه على نفسه.
ويمنيه بما يشاء من العطاء …
فأشفق (٢١) عليه مطر وأمنه، وأطلق سراحه.
لكن "جابان" ما كاد يتخلص من بين يدي آسره؛ حتى عرفه جند المسلمين وقبضوا عليه، وأتوا به إلى قائد الجيش أبي عبيد وقالوا:
هذا "جابان" قائد جيش الفرس، ولقد أمنه أحد جنود المسلمين وهو لا يعرفه، ثم أشاروا عليه بقتله.
فقال: والله! لا أقتله بعد أن أمنه …
فالمسلمون كالجسد الواحد ما لزم بعضهم؛ فقد لزمهم جميعا.
.
وأطلق سراحه.
* * *
استسلم الجند المنهزمون لأبي عبيد … وصالحوه على أن يدفعوا له الجزية (٢٢)، وجاءوا له بنفائس الطعام والأخبصة (٢٣) …
فلما وضعوها بين يديه؛ أعرض (٢٤) عنها وقال:
هل أكرمتم جند المسلمين جميعا بمثل ما تكرمونني به؟.
فقالوا: إن ذلك لم يتيسر لنا اليوم وسنفعله غدا.
فقال: ارفعوه؛ فلا حاجة لنا به …
ثم دمعت عيناه وقال:
بئس المرء أبو عبيد إن هو صحب جنود المسلمين من ديارهم، وانتزعهم من بين أهليهم وأولادهم، ثم استأثر (٢٥) من دونهم بشيء …
لا والله! لا أكل شيئا مما أتيتم به ولا مما أفاء الله (٢٦) به علينا من الغنائم؛ إلا ما يأكل أوسط جندي من جنود المسلمين، فرفعوه.
* * *
جمع أبو عبيد الغنائم، وكان في جملة ما غنمه: نوع من فاخر التمر يدعى "النرسيان" وذلك نسبة إلى نرسي ابن خالة الملك، وإنما نسب إليه لأنه استأثر بزراعته، وحظرها (٢٧) على غيره من الناس.
وكان ملك فارس يخص نفسه بهذا النوع الفريد من التمر؛ فلا يأكله أحد إلا هو وأسرته، ومن شاء أن يكرمه بهدية منه.
فوزعه أبو عبيد على فلاحي الفرس؛ الذين كانوا يغرسونه، ويجنونه (٢٨)، ولا يذوقونه.
.
وبعث بخمسه إلى بيت مال المسلمين في المدينة.
وكتب إلى عمر بن الخطاب يقول:
إن الله أطعمنا مطاعم كانت الأكاسرة (٢٩) تحميها، وتختص بها من دون رعيتها.
فأحببنا أن تروها -يا أمير المؤمنين- لتشكروا الله تعالى على إنعامه وإفضاله.
* * *
بلغت أنباء الهزيمة المنكرة (٣٠) التي حلت بالفرس مسامع كبيرهم "رستم" وعرف ما حل "بجابان" وقائد ميمنته.
.
فاستشاط (٣١) غضبا.
.
وكبر عليه أن تنهزم جيوش الفرس المظفرة أمام هذه القلة القليلة من العرب الحفاة العراة.
فجمع خاصته (٣٢) وقال لهم:
أي العجم أشد بأسا على العرب فيما ترون؟.
فقالوا: إنه "يهمن" ذو الحاجب.
فقال: أصبتم.
ثم استدعى "بهمن" وعقد له اللواء على ثمانين ألفا من أشداء المقاتلين، وجعل في جيشه عشرين فيلا لم تر العين أضحم منها ولا أقوى.
فسار "بهمن" بهذا الجيش اللجب (٣٣) حتى نزل على شاطئ الفرات
الشرقي بالقرب من موقع الكوفة (٣٤).
أما أبو عبيد؛ فقد توجه بجنده وعسكر على ضفة النهر المقابلة لمعسكر الفرس؛ فكتب "بهمن" إلى أبي عبيد يقول:
إما أن تعبروا إلينا ولا نمد لكم يدا بسوء عند عبوركم، وإما أن نعبر إليكم كذلك
فقال أبو عبيد لمن حوله: لا يكون الفرس أجرأ منا على الموت …
وعزم على العبور؛ على الرغم من معارضة كثير من رجاله لما عزم عليه، وأعلم الفرس بذلك.
* * *
وفي الليلة التي سبقت العبور؛ رأت زوجة أبي عبيد فيما يراه النائم: أن رجلا هبط من السماء ومعه إبريق (٣٥) فيه شراب؛ فسقى منه زوجها، وأخاه، وأولاده الثلاثة.
فلما قصت رؤياها على أبي عبيد؛ قال لها:
بشراك! …
فقد كتبت لي الشهادة أنا وأخي وأولادي، ثم وقف في جنده وقال:
أيها الناس؛ إن قتلت فأمروا (٣٦) عليكم أخي حكما …
فإن قتل؛ فأمروا ولدي وهبا …
فإن قتل؛ فأمروا أخاه مالكا …
فإن قتل؛ فأمروا أخاه جبرا.
فإن قتل؛ فأمروا المثنى بن حارثة الشيباني (٣٧).
ثم أمر المسلمين بالعبور؛ فصدعوا (٣٨) بالأمر، وطفقوا يتدفقون نحو الشاطئ الشرقي من النهر كما يتدفق السيل.
وعبروه فوق جسر نصبوه هناك.
* * *
ولما التقى الجيشان على أرض المعركة؛ فوجئ المسلمون بالفيلة التي تتقدم جيش الفرس، وقد ثبتت على ظهورها ورقابها أغصان كثيفة من سعف (٣٩) النخل …
وعلقت عليها أجراس كبيرة مجلجلة (٤٠).
فبدا كل فيل منها كأنه جبل مشجر يمشي على الأرض …
فهابها جنود المسلمين الذين لم يكن لهم عهد (٤١) بها من قبل … وأجفلت (٤٢) منها خيولهم.
فأيقن أبو عبيد بأنه لا بد له من أن يقضي على الفيلة وفرسانها حتى يحقق لجيشه النصر؛ فنادى بجنود المسلمين أن أقبلوا على الفيلة واقطعوا أحزمتها … واقلبوا الرجال من فوقها … واطعنوها في مقاتلها (٤٣).
وها أنا ذا ماض أمامكم …
وما إن أتم كلامه؛ حتى أقبل على الفيل الأكبر؛ فقطع حزامه وأردى (٤٤) الفارس الذي على ظهره.
.
لكن الفيل ما لبث أن ضربه بخرطومه (٤٥) ضربة ألقته في الأرض.
ثم داس عليه بيديه وصرعه (٤٦).
* * *
توالى على القيادة من بعد أبي عبيد أخوه الحكم؛ فخر صريعا شهيدا …
فتلاه ابنه الأكبر؛ فلحق بأبيه وعمه …
فتلاه ابنه الثاني؛ فلحق بهم أيضا.
فتلاه ابنه الثالث؛ فآل (٤٧) إلى ما آل إليه أبوه وأخواه وعمه …
فتحققت رؤيا زوجة أبي عبيد، وصح تأويله لها …
حيث كتبت الشهادة لهم جميعا.
* * *
لم يحقق المسلمون في هذه الواقعة التي دعيت بوقعة الجسر ما كانوا يرجونه من نصر …
غير أنهم ملؤوا قلوب أعدائهم رعبا …
وشحنوا (٤٨) أفئدتهم رهبة وخوفا …
ولقد كانت وقعة الجسر حدثا خطيرا كبيرا له ما بعده …
ذلك أن يوم القادسية (٤٩) الأبلج الأغر لم يكن عن يوم الجسر ببعيد (*).
_________
(١) موسدا على فراشه: موضوعا على فراشه.
(٢) مشفقين: حريصين على خيره خائفين حنانا وعطفا.
(٣) المدد: العساكر التي تلحق بالمغازي في سبيل الله.
(٤) مهما جلت: مهما عمت وعظمت.
(٥) ندب الناس: دعاهم.
(٦) البأس: القوة والشدة.
(٧) كرة أخرى: مرة ثانية.
(٨) كاسف البال: سيئ الحال.
(٩) انفرجت أساريره: بدا السرور على وجهه.
(١٠) الحمية: النخوة والمروءة.
(١١) شأنا: منزلة ومقاما.
(١٢) تثاقلوا: تباطؤوا.
(١٣) خف إليه: نشط وأسرع إليه.
(١٤) حضهم على الجهاد: رغبهم فيه وحثهم عليه.
(١٥) عبروا قواهم: جهزوها.
(١٦) القاضية: المهلكة المدمرة.
(١٧) ميمنته: جناح جيشه الأيمن.
(١٨) النمارق: موضع قرب الكوفة من أرض العراق.
(١٩) معركة طحون: الحرب العظيمة المهلكة.
(٢٠) زلزل أقدامهم: أرجف أقدامهم.
(٢١) أشفق عليه: عطف عليه.
(٢٢) الجزية: ما يؤخذ من الذميين لأنها تجزئ عنه؛ أي تكفيه معاملة الحربيين.
(٢٣) الأخبصة: نوع من الحلوى.
(٢٤) أعرض عنها: صد عنها وتركها.
(٢٥) استأثر: آثر نفسه واختصها بشيء.
(٢٦) أفاء الله: أعطى ومنح.
(٢٧) حظرها على غيره: منعها عن غيره.
(٢٨) يجنونه: يحصدونه.
(٢٩) الأكاسرة: ملوك الفرس.
(٣٠) المنكرة: القاسية الشديدة.
(٣١) استشاط: اشتعل.
(٣٢) خاصته: حاشيته ومعاونوه.
(٣٣) اللجب: الجرار ذو الجلبة.
(٣٤) الكوفة: مدينة اختطها المسلمون بأرض بابل من سواد العراق.
(٣٥) الإبريق: الإناء، وهي كلمة فارسية، والجمع: أباريق.
(٣٦) أمروا عليكم: اجعلوا أميرا عليكم.
(٣٧) المثنى بن حارثة الشيباني: انظره ص ١٩٩.
(٣٨) فصدعوا بالأمر: جهروا بالأمر وأنفذوه.
(٣٩) سعف النخل: ورق جريده.
(٤٠) مجلجلة: مصدرة صوتا شديدا.
(٤١) عهد بها: معرفة بها.
(٤٢) أجفلت منها خيولهم: نفرت منها.
(٤٣) مقاتلها: مواضع قتلها.
(٤٤) أردى الفارس: قتله.
(٤٥) بخرطومه: بأنفه.
(٤٦) صرعه: قتله.
(٤٧) آل: انتهى أمره.
(٤٨) شحنوا: ملأوا.
(٤٩) انظر طرفا من أخبارها في القعقاع بن عمرو.
مختارات