80. القعقاع بن عمرو
القعقاع بن عمرو
"في القادسية أيضا"
"ب"
ما كاد يقبل الليل ويلف بظلامه ساحة القادسية؛ حتى وضع الجند سلاحهم، وأسلموا جنوبهم للمضاجع …
فقد كان اليوم الثاني من أيام المعركة كسابقه؛ ثقيل الوطأة شديد البأس … لكن عين القعقاع بن عمرو لم تنم.
وأنى لها أن تنام …
والمسلمون قد نفد صبرهم وهم ينتظرون المدد القادم من الشام بقيادة هاشم بن عتبة؛ حتى كاد يدركهم اليأس، وتذهب بهم الظنون (١) كل مذهب.
فعزم على أن يعيد في هذا اليوم ما فعله بالأمس.
* * *
أخذ القعقاع يسرب فرسانه الألف الذين جاءوا معه إلى المكان الذي وقفوا فيه صبيحة اليوم الماضي؛ بعيدا عن القادسية …
وأمرهم إذا طلعت عليهم الشمس أن يقبلوا على ميدان المعركة مائة إثر مائة؛ على أن يكون بين المائة وأختها مقدار مد البصر …
وأن يشحنوا الجو بالغبار وأن يملأوا الأرض بالضجيج والعجيج … ليبثوا في صدور المسلمين الثقة والعزم، ويشيعوا في نفوس الفرس القلق والخوف.
وما إن طلع الصباح وأشرقت الأرض بنور ربها؛ حتى طفقت الكتائب تقبل من خلف الصحراء على ساحة المعركة مكبرة مهللة …
فيتلقاها القعقاع كتيبة إثر كتيبة، ويحدد لها مكانها بين الصفوف.
لكن سيل الكتائب جاوز العشر؛ فنظر … فإذا هاشم بن عتبة قد وصل بجيشه إلى مشارف القادسية مع الصباح أيضا …
ورأى هاشم فرسان القعقاع بن عمرو وما يصنعون؛ فسر من صنيعهم، وقسم هو الآخر جنده إلى مئات، وأمرهم أن يتلاحقوا تباعا إلى أرض المعركة …
* * *
لم يفت (٢) هذا المدد الكبير في عضد الفرس كثيرا.
ذلك لأنهم كانوا قد أصلحوا توابيت (٣) فيلتهم وجددوا وضنها، وصفوها في طليعة الجيش؛ كأنها البنيان المرصوص.
ولقد كانوا على ثقة بأنها ستفتك بالمسلمين اليوم أكثر مما فتكت بهم في اليوم الأول.
ذلك لأنهم احتاطوا لها هذه المرة بما لم يحتاطوا لها من قبل …
فأحاطوها بالفرسان من كل جانب حتى لا يخلص إليها المسلمون؛
فيقطعوا وضنها ويحطموا توابيتها ويرموا فيالتها؛ فتولي مدبرة … كما فعلت في اليوم الأول.
* * *
وما إن دارت رحى المعركة حتى شد المسلمون على حماة الفيلة، وشد الفرس على المسلمين الذين تصدوا لهؤلاء الحماة …
فدارت حول هذه الحيوانات الرهيبة معارك ضارية؛ أريق فيها الغزير من الدماء، وأزهق خلالها الكثير من الأنفس.
فصبر المسلمون وصابروا، وتجلدوا (٤) لعدوهم وجالدوا؛ حتى أطاحوا بحماة الفيلة واحدا بعد آخر …
فإذا هم بين قتيل أو جريح أو ناكص على الأعقاب.
* * *
لكن هذه الحيوانات الشرسة ما كادت ترى أن حماتها قد انفضوا عنها؛ حتى استوحشت وهاجت وهجمت على صفوف المسلمين؛ كأنها الحصون المتحركة، وجعلت تضرب بخراطيمها الطويلة ذات اليمين وذات الشمال؛ فلا تبقي أمامها أحدا ولا تذر.
ولم تكن لتؤثر فيها ضربات السيوف، ولم تكن لتنال منها طعنات الرماح، وما كانت النبال (٥) إلا لتزيدها ثورة وهيجانا.
* * *
شعر سعد بن أبي وقاص بالكارثة التي توشك أن تحيق بالمسلمين بسبب هذه الفيلة، وأيقن أنه إذا لم يقض عليها؛ فسيصاب المسلمون بهزيمة
لا تقوم لهم بعدها قائمة.
وكان أشد هذه الفيلة وطأة على المسلمين الفيل الأبيض؛ وهو فيل "يزدجرد" ملك الفرس، ثم الفيل الأجرب الذي لا يقل عنه هولا (٦).
وكانت الفيلة الأخرى تتبعهما كأنهما قائدان لها.
* * *
استشار سعد بن أبي وقاص جماعة من الفرس الذين أسلموا في أمر هذه الفيلة، وسألهم عن مقاتلها؛ فقالوا:
افقؤوا عيونها، واقطعوا خراطيمها؛ فتفشل وتذهب ريحها.
فأرسل إلى القعقاع بن عمرو وأخيه عاصم وقال:
اكفيا المسلمين الفيل الأبيض.
وأرسل إلى اثنين جلدين من بني أسد وقال:
عليكما بالفيل الأجرب.
* * *
ترجل القعقاع وأخوه عاصم عن جواديهما …
واندفعا يشقان الصفوف في اتجاه الفيل الأبيض؛ حتى إذا أصبحا قاب قوس منه أو أدنى … سدد القعقاع رمحه إلى عينه اليمنى؛ بينما تكفل أخوه بعينه اليسرى، وأهويا على عينيه برمحيهما في لحظة واحدة …
فإذا بسنانيهما (٧) يغيبان في محجريه (٨) …
فنفض الحيوان الرهيب رأسه من شدة الألم نفضة ألقت بفياله على الأرض، وداس في بطنه فصرعه.
ثم إن الفيل دلى خرطومه إلى الأرض ليتحسس به طريقه بعد أن فقد بصره؛ فوثب عليه القعقاع وقطه (٩) بسيفه قطا …
وحمل الفارسان الأسديان على الفيل الأجرب؛ ففقآ إحدى عينيه، وأصابا خرطومه إصابة بالغة …
فارتد على صفوف الفرس هائجا مائجا ومضى يفتك فيهم فتكا ذريعا؛ فنخسوه (١٠)؛ فانقلب إلى صفوف المسلمين …
فوخزه المسلمون؛ فعاد من حيث أتى …
ثم طفق يهرول جيئة وذهابا، ويصيح كالخنزير من شدة الألم.
ثم اندفع نحو النهر ووثب فيه؛ فتبعته الفيلة الأخرى ووثبت وراءه، وطرحت فيالتها ذات اليمين وذات الشمال.
* * *
كان للقضاء على الفيلة أثر كبير لدى المسلمين وعدوهم على السواء.
أما المسلمون؛ فأيقنوا بعون الله ووثقوا بنصره؛ إذا هم صبروا وصابروا وأرخصوا الدماء في سبيل الله.
وأما الفرس؛ فعوضوا عن الفيلة بالإمدادات الضخمة التي أمدهم بها ملكهم "يزدجرد"، فشدت من عزائمهم شدا.
* * *
أقبل الفريقان على القتال إقبال العطاش على الماء، ودارت بينهما رحى معركة ضروس تطحن الرجال والسلاح طحنا …
ولما دجا (١١) الليل، ولف الكون بشملته السوداء؛ لم يضع أي من الفريقين سلاحه؛ كما كانا يفعلان كل ليلة …
وإنما وصلا قتال النهار بقتال الليل؛ حتى لكأن كلا منهما قد عزم على ألا يلقي السلاح؛ إلا إذا دارت الدائرة (١٢) على عدوه.
وبسبب من هذا العزم الذي عزم عليه المتقاتلون …
وبسبب الظلام الذي خيم على الكون، وبسبب الغبار الذي غطى ساحة المعركة …
خرج الأمر من يدي سعد بن أبي وقاص قائد جيش المسلمين؛ كما خرج من يدي "رستم" قائد جيش الفرس، وفقدا سيطرتهما على جيشيهما.
وقد عرف سعد أن القعقاع بن عمرو زحف على الفرس من غير إذنه؛ فتخوف على جند المسلمين من أن تصيبهم كارثة …
لكنه لم يملك سوى أن قال: اللهم اغفر للقعقاع بن عمرو وانصره …
اللهم إني قد أذنت له وإن لم يستأذني.
وقد زاده جزعا على جزعه؛ أنه رأى قبائل العرب تزحف وراء القعقاع الواحدة تلو الأخرى.
فهذه أسد تندفع بقضها وقضيضها، وتلك بجيلة تزحف بخيلها ورجلها، وهذه كندة تقبل، وتلك النخع تحمل …
فلم يجد بدا من أن يكبر تكبيراته الثلاث إيذانا بالهجوم العام؛ فهجم المسلمون جميعا.
* * *
أسعر (١٣) الجيشان المتقابلان لظى معركة مستطيرة الشرر؛ فكنت لا ترى في عتمة الليل غير عيون كالجمر تدور في المحاجر …
ولا تسمع غير همهمة كالزئير تنبعث من الحناجر …
ولا تبصر غير الشرر المتطاير من وقع النصال (١٤) على النصال.
* * *
ولما تنفس الصبح عن تلك الليلة الليلاء التي دعيت بليلة "الهرير" (١٥) كان الإعياء (١٦) قد بلغ بكل من الفريقين غايته.
فالسواعد قد كلت (١٧)، والعزائم قد وهنت، والسيوف قد تثلمت (١٨) …
وتمنى كل من الفريقين أن يضع السلاح طلبا للراحة، ولما يكتب له النصر.
* * *
عند ذلك؛ وقف القعقاع بن عمرو في صفوف المسلمين وقال:
يا معشر المسلمين؛ إن النصر سيكون بعد ساعة لمن يثبت على القتال منكم أو من عدوكم …
فكونوا أنتم الذين تصبرون هذه الساعة.
ثم شد مع طائفة من خواص رجاله على معسكر الفرس …
فشد المسلمون لشدته.
* * *
لم ترتفع شمس ذلك اليوم عاليا؛ حتى كانت صفوف الفرس تترنح تحت وطأة هجمات المسلمين.
وهبت على ساحة المعركة ريح عاصفة أطارت قبة سرير (١٩) "رستم" من فوقه وقذفت بها إلى النهر …
فاندفع القعقاع ومن معه نحو السرير ليفتكوا بصاحبه؛ فقفر "رستم" عنه.
ولما رأى أن جند المسلمين قد أوشكوا أن يطبقوا عليه؛ ألقى بنفسه في النهر … فانقض عليه أحد رجال القعقاع، وفلق جبينه بالسيف فلقتين.
ثم صعد على سريره وجعل يصيح:
قتلت "رستم"، ورب محمد …
قتلت "رستم" ورب الكعبة.
* * *
لقد كان مصرع "رستم" خاتمة لأعظم معركة غيرت وجه التاريخ.
وكان القعقاع بن عمرو هو بطل هذه المعركة الفذ غير منازع (*).
_________
(١) تذهب بهم الظنون كل مذهب: تسير بهم في كل طريق ومعتقد، من الحيرة والاضطراب.
(٢) يفت في عضدهم: يوهن قوتهم.
(٣) توابيت فيلتهم: صناديقها التي يجلس فيها الرجال.
(٤) تجلدوا: أظهروا الجلد والصبر.
(٥) النبال: السهام.
(٦) الهول: الخطر المرعب.
(٧) السنان: نصل الرمح.
(٨) المحجر من العين: ما أحاط بها.
(٩) قطه: قطعه.
(١٠) فنخسوه: هيجوه وأزعجوه، وذلك بأن يغرزوا جنبه أو مؤخرته بعود أو نحوه.
(١١) دجا الليل: أظلم الليل.
(١٢) الدائرة: النكبة والمصيبة.
(١٣) أسعر: أوقد.
(١٤) النصال: جمع نصل، ونصل السيف حديدته.
(١٥) الهرير: صوت الكلب دون النباح.
(١٦) الإعياء: التعب.
(١٧) كلت: تعبت.
(١٨) تثلمت: انكسرت.
(١٩) سرير رستم: مضطجعه.
مختارات