82. الزبير بن العوام
الزبير بن العوام
"إن الملائكة نزلت على سيما الزبير"
[قالها الرسول ﷺ يوم بدر]
من هذا الفارس الذي شق بسيفه صفوف الناس في مكة حمية لرسول الله ﷺ …
فكان أول من امتشق (١) حساما (٢) في الإسلام؟!
من هذا الكمي (٣) الذي بعثه الفاروق مددا للمسلمين في مصر، وعده عليهم بألف.
فكان خيرا لهم من آلاف؟!.
من هذا الفدائي الذي ما عرف تاريخ الفداء فتى أشجع منه شجاعة.
ولا أجل تضحية.
ولا أنبل (٤) غاية.
ولا أكثر بركة على الإسلام؟!.
إنه الزبير بن العوام؛ حواري النبي.
* * *
كان الزبير بن العوام في الذؤابة (٥) من قريش …
فنسبه يجتمع مع نسب رسول الله ﷺ في قصي بن كلاب (٦).
وكانت أمه صفية بنت عبد المطلب (٧)؛ عمة رسول الله ﷺ.
وكانت عمته خديجة بنت خويلد؛ أبر وأكرم زوجات رسول الله ﷺ.
* * *
ولد الزبير بن العوام قبيل البعثة بنحو خمس عشرة سنة؛ إلا أنه ما كاد يبصر النور … حتى وجد نفسه يتيما …
فقد قتل أبوه في ساحات الوغى (٨) …
كما قتل جده من قبل.
* * *
تولت أمه صفية بنت عبد المطلب تربيته …
فنشأته على الحشونة والبأس.
فلقد كانت أمه امرأة حازمة صارمة …
فجعلت تقذف به في كل مخافة، وتقحمه في كل خطر.
فإذا أحجم (٩) أو تردد أو قصر؛ ضربته ضربا مبرحا (١٠).
حتى إن عمه نوفل بن خويلد كان يعاتبها على قسوتها عليه، ويقول: ما هكذا يضرب الولد …
إنك لتضربينه ضرب مبغضة …
فكانت ترتجز قائلة:
من قال أبغضته فقد كذب
وإنما أضربه لكي يلب
ويهزم الجيش ويأتي بالسلب
* * *
ولما أشرقت جزيرة العرب بنور الإسلام؛ كان الزبير بن العوام من السابقين الأولين إلى اعتناقه.
فقد أسلم في اليوم الثاني لإسلام الصديق ﵁، وكان في الخامسة عشرة من عمره.
* * *
وقد لقي الفتى الباسل من أذى قريش ما تتضعضع (١١) له عزمات (١٢) أشد الرجال؛ فلم يهن، ولم يضعف …
فهذا عمه نوفل بن خويلد يتفنن في تعذيبه؛ حتى إنه كان يلف عليه الحصير، ويوقد في أطرافها النار …
فتشتعل في بطء، وتبعث الحرارة في جسده، وتنفث (١٣) الدخان في عينيه وأذنيه وخياشيمه (١٤) ورئتيه؛ حتى يوشك أن يموت خنقا …
وكان عمه يرقبه في هدوء؛ فإذا اشتد عليه الضنك؛ قال له:
عد إلى دينك …
فيقول: لا أكفر أبدا.
* * *
ولما هاجر المسلمون الأولون إلى الحبشة؛ كان الزبير في طليعة المهاجرين …
فلقي هو وإخوانه في كنف مليكها الصالح؛ الأمن على عقيدتهم والطمأنينة على دينهم.
وطفقوا (١٥) يعبدون الله لا يخافون أحدا.
وفيما هم كذلك؛ خرج على النجاشي (١٦) رجل من قومه ينازعه في ملكه؛ فخرج إليه النجاشي وأجتاز النيل ليلقاه هو ومن معه …
فجزع المسلمون أشد الجزع.
قالت أم سلمة (١٧) وكانت معهم:
فوالله! ما أعلم أننا حزنا حزنا قط أشد مما أصابنا ذلك اليوم؛ تخوفا من أن يظهر (١٨) ذلك الرجل على النجاشي، ويسلمنا إلى? قومنا الذين كانوا يجدون في طلبنا؛ فقال أصحاب رسول الله ﷺ:
من رجل يجتاز النيل، ويأتينا بخبر القوم؟.
فقال الزبير بن العوام:
أنا -وكان من أحدث (١٩) القوم سنا-.
* * *
قالت أم سلمة:
فنفحوا له قربة؛ فجعلها في صدره …
ثم مضى يسبح بين الأمواج والحيتان؛ حتى قطع النيل من شاطئه، إلى شاطئه، وبلغ أرض المعركة.
وفيما كنا مجتمعين مترقبين ندعو الله للنجاشي بالظهور على عدوه؛ إذ طلع علينا الزبير، وهو يلوح بثوبه من بعيد، ويقول:
ألا أبشروا … فقد ظفر النجاشي، وأهلك الله عدوه.
قالت أم سلمة:
فوالله! ما علمتنا فرحنا فرحة قط مثلها.
* * *
ولما عاد الزبير إلى مكة من الحبشة؛ وضع شبابه وبأسه وجرأته في سبيل الله ورسوله ﷺ
فقد أرجف (٢٠) المشركون برسول الله ﷺ، فقالوا:
إنه أخذ ليقتل.
فجرد (٢١) الفتى الباسل سيفه …
وجعل يشق به صفوف الناس شقا؛ حتى بلغ النبي ﷺ في أعلى مكة؛ فقال له الرسول: (مالك يا زبير؟!).
قال: أخبرت أنك أخذت …
فدعا له الرسول ﷺ ولسيفه …
وكان بذلك سيفه؛ أول سيف سل في الإسلام.
* * *
ولما أذن الله لنبيه ﷺ بالهجرة إلى المدينة … جعل المسلمون يخرجون جماعات جماعات؛ ليشد بعضهم أزر بعض.
وحرضوا على أن يخرجوا سرا حتى لا تتصدى لهم قريش؛ إلا ثلاثة من صناديد المسلمين؛ خرجوا فرادى وعلى ملإ من قريش …
فكان الواحد منهم يطوف بالكعبة ويؤذن (٢٢) قريشا بخروجه، ويتحداهم أن يصدوه (٢٣) أو يلحقوا به.
هؤلاء الثلاثة هم:
عمر بن الخطاب؛ خليفة رسول الله ﷺ …
وحمزة بن عبد المطلب (٢٤) عم رسول الله ﷺ …
والزبير بن العوام؛ حواري رسول الله ﷺ.
* * *
وفي يوم بدر؛ لم يكن مع المسلمين غير فرسين، وكانت إحداهما للزبير ابن العوام؛ فامتطى صهوة فرسه، ولاث (٢٥) على رأسه عمامة صفراء …
ولما أمد الله نبيه ﷺ بالملائكة؛ فإذا عليهم عمائم صفر؛ فقال النبي:
(إن الملائكة نزلت على سيما (٢٦) الزبير).
* * *
وأبلى (٢٧) الزبير في بدر بلاء يليق (٢٨) بفارس كمي مثله، ولقي طائفة من صناديد (٢٩) المشركين مصارعهم على يديه.
.
وقد تتملكك الدهشة إذا عرفت أن أحد صرعاه؛ إنما هو عمه نوفل بن خويلد صاحب الحصير.
* * *
وفي يوم أحد؛ بايع الزبير رسول الله ﷺ على الموت في هذه الغزوة.
فلما اشتد الكرب على المسلمين وطفقوا ينهزمون في كل اتجاه؛ رأى الرسول ﷺ فارسا على فرسه؛ يوقع (٣٠) بالمسلمين أشد الإيقاع، ويقتل رجالهم أعنف (٣١) القتل … فالتفت إلى الزبير وقال:
(إليه يا زبير) …
فما كادت كلمة الرسول ﷺ تلامس سمعه؛ حتى هب كالأسد عاديا، وصعد مكانا فوق الناس، ووثب عليه وهو على? جواده، واعتنقه وهوى به إلى الأرض، وجعلا يتدحرجان معا حتى علا فوق صدره، وقتله …
ففداه الرسول ﷺ حينئذ بأبيه وأمه.
وفي يوم حنين؛ أوشك المشركون أن يحيطوا برسول الله ﷺ …
فما زال يطاعنهم حتى أزالهم عن أماكنهم …
فشكا المشركون لأحد قادتهم من فارس يضع رمحه على عاتقه، ويعصب رأسه بملاءة صفراء واستعانوه (٣٢) عليه، وسألوه عنه؛ فقال:
هذا الزبير بن العوام … وأحلف باللات والعزى ليقتحمن جموعكم وليخالطن صفوفكم؛ فاثبثوا له.
فلم يكذب الزبير ظنه.
.
إذ ما لبث أن قصد قصد المشركين، وطفق يطاعنهم حتى خالط صفوفهم، وأزاحهم عنها.
* * *
ظل سيف الزبير بن العوام مسلولا طوال حياة رسول الله صلوات الله عليه؛ فلم يتخلف عن غزوة غزاها النبي ﷺ قط، وقد تحمل في سبيل ذلك ما شاء الله أن يتحمل …
حتى إنه لم يبق عضو من أعضائه الظاهرة أو المستورة؛ إلا وقد جرح مع رسول الله ﷺ.
* * *
ولو رحنا نستقصي صور بطولة الزبير بن العوام بعد وفاة النبي ﵇؛ لوجدناها لا تقل تألقا وفذاذة (٣٣) عما كانت عليه في عهد الرسول الكريم ﷺ.
وحسبنا من هذه الصور المشرقة الوضاءة؛ ما كان منه يوم فتح مصر.
* * *
لقد قصد عمرو بن العاص (٣٤) مصر لفتحها في ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل من جنود المسلمين؛ فما إن أوغل (٣٥) في أرض الكنانة (٣٦) حتى شعر بحاجته إلى المدد؛ فكتب إلى الفاروق يستمده بما يفيض عن حاجته من الجند.
فتلفت الفاروق حوله … فلم يجد خيرا من الزبير بن العوام يبعث به مددا لجيش المسلمين في مصر، وكان الزبير يومئذ قد عزم على غزو أنطاكية (٣٧)؛ فقال له عمر:
يا أبا عبد الله؛ هل لك في ولاية مصر؟
فقال:
لا حاجة لي فيها، ولكن أخرج مجاهدا لله؛ معاونا للمسلمين …
فإن وجدت عمرا قد فتحها؛ لم أعرض لعمله، وقصدت إلى بعض السواحل فرابطت (٣٨) فيه، وإن وجدته في جهاد كنت معه.
* * *
فجهر الفاروق أربعة آلاف من جند المسلمين، وجعل عليهم الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود (٣٩)، وعبادة بن الصامت (٤٠)، ومسلمة بن مخلد …
وكتب إلى عمرو بن العاص يقول:
إني أمددتك بأربعة آلاف رجل؛ على كل ألف منهم رجل في مقام ألف.
* * *
ولما قدم الزبير على عمرو؛ وجده يحاصر حصن بابليون (٤١) في الفسطاط …
فركب جواده وطاف حول أسوار الحصن، ثم حدد لرجاله أماكنهم …
وطال حصار حصن بابليون، وجعل الناس يقولون:
إن في الحصن طاعونا
فقال الزبير:
إنما جئنا للطعن والطاعون.
ولما أبطأ الفتح وكاد الملل والسآمة ينالان من المسلمين؛ قال الزبير:
إني أهب نفسي لله، وأرجو أن يفتح الله بها على المسلمين.
* * *
أعد الزبير سلما وثيقا متينا، وأسنده إلى جدار من جدران الحصن، وأمر رجاله إذا سمعوا تكبيره أن يجيبوه جميعا بصوت واحد وأن يلحقوا به.
وما هو إلا قليل؛ حتى امتشق الزبير بن العوام سيفه، وصعد درجات السلم في طرفة عين، وتسور جدار الحصن وهتف:
الله أكبر …
الله أكبر.
فانطلقت وراءه آلاف الحناجر تردد الله أكبر؛ الله أكبر.
فزلزل دويها قلوب المشركين.
وألقى الزبير بنفسه إلى داخل الحصن.
وتتابع جند المسلمين على إلقاء أنفسهم وراءه.
وأعملوا سيوفهم في رقاب الروم الذين أذهلتهم (٤٢) المفاجأة.
وعمد (٤٣) الزبير وأصحابه إلى باب الحصن؛ ففتحوه.
فاقتحمته (٤٤) جموع المسلمين …
وانقضوا على عدوهم انقضاض الصاعقة.
فهزموه شر هزيمة.
وكتب الله النصر لجنده …
وقيل سحقا (٤٥) للظالمين (*).
_________
(١) امتشق: استل وأمسك.
(٢) حساما: سيفا.
(٣) الكمي: البطل الشجاع.
(٤) ولا أنبل: ولا أشرف.
(٥) في الذوابة: في المرتبة العليا من قريش.
(٦) قصي بن كلاب: سيد قريش في زمنه، وكان موصوفا بالدهاء، وولي البيت الحرام وجدد بنيان الكعبة، وهو الأب الخامس في سلسلة النسب النبوي.
(٧) صفية بنت عبد المطلب: انظرها في كتاب صور من حياة الصحابيات للمؤلف؛ الناشر دار الأدب الإسلامي.
(٨) ساحات الوغى: ساحات الحرب.
(٩) أحجم عن الأمر: رجع عنه وتأخر عن فعله.
(١٠) ضربا مبرحا: أي شديد الوجع.
(١١) ما تتضعضع: ما تضعف قوتهم.
(١٢) العزمات: جمع مفرده عزمة وهي الثبات والصبر فيما يعزم عليه.
(١٣) نفث الشيء: قذفه وألقاه.
(١٤) خياشيمه: أي أنفه.
(١٥) طفقوا: أخذوا.
(١٦) النجاشي: انظره في كتاب صور من حياة التابعين للمؤلف؛ الناشر دار الأدب الإسلامي.
(١٧) أم سلمة: انظرها في كتاب صور من حياة الصحابيات للمؤلف؛ الناشر دار الأدب الإسلامي.
(١٨) أن يظهر على النجاشي: ينتصر عليه ويغلبه.
(١٩) أحدث سنا: أصغر سنا.
(٢٠) أرجف: زعم.
(٢١) جرد سيفه: سل سيفه من غمده.
(٢٢) ويؤذن: يعلم.
(٢٣) يصدوه: يمنعوه.
(٢٤) حمزة بن عبد المطلب: انظره ص ٥٩.
(٢٥) لاث العمامة على رأسه: لفها وعصبها.
(٢٦) سيما الزبير: صفته وصورته.
(٢٧) أبلى: أظهر قوته وكشف عن بأسه.
(٢٨) يليق: يناسب.
(٢٩) صناديد: جمع صنديد، وهو الفارس الشجاع والسيد العظيم.
(٣٠) يوقع بالمسلمين: ينزل بهم.
(٣١) أعنف: أشد وأقسى.
(٣٢) واستعانوه: طلبوا منه المعونة.
(٣٣) فذاذة: فرادة وروعة.
(٣٤) عمرو بن العاص: انظره في الكتاب الثامن من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(٣٥) أوغل: دخل بعيدا.
(٣٦) الكنانة: الجعبة التي توضع فيها السهام، وأرض الكنانة أي مصر.
(٣٧) انظر تحرير أنطاكية في كتاب "حدث في رمضان" للمؤلف؛ الناشر دار الأدب الإسلامي.
(٣٨) المرابطة: الملازمة لثغور الأعداء.
(٣٩) المقداد بن الأسود: انظره ص ٤٠٩.
(٤٠) عبادة بن الصامت: انظره ص ٢٥٩.
(٤١) حصن بابليون: انظر خبره في كتاب "الطريق إلى الأندلس" لمحات وقطوف للمؤلف؛ الناشر دار الأدب الإسلامي.
(٤٢) أذهلتهم المفاجأة: أطارت عقولهم.
(٤٣) عمد: قصد.
(٤٤) فاقتحمته: دخلته.
(٤٥) سحقا: بعدا.
مختارات