79. القعقاع بن عمرو
القعقاع بن عمرو
"في القادسية"
"أ"
ما كاد ينفض القعقاع بن عمرو يديه من غبار المعارك في بلاد الشام، ويسلم جنبه إلى الراحة بعد فتح دمشق مع خالد بن الوليد؛ حتى ورد كتاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح (١)؛ يقول فيه:
اقتطع من جندك كذا وكذا، وأنفذهم حثيثا (٢) إلى سعد بن أبي وقاص (٣) في القادسية، وإياك أن تتريث أو تتلبث (٤).
فصدع أبو عبيدة بأمر عمر، وولى على الجيش هاشم بن عتبة، وجعل على مقدمته القعقاع بن عمرو، وقال لهما:
العجل العجل؛ فالمسلمون في القادسية يواجهون أضخم حشد حشدته فارس في حرب، وهم بحاجة إلى كل رجل منكم …
* * *
مضى القعقاع بن عمرو بالمقدمة، وكان فيها ألف فارس …
وطفق يواصل هو ورجاله كلال (٥) الليل بكلال النهار؛ حتى سبقوا
هاشم ابن عتبة، وبلغوا مشارف القادسية فجر اليوم التالي من أيام المعركة.
* * *
عرف القعقاع بن عمرو أن اليوم الأول من أيام القادسية كان شديد البأس على المسلمين بسبب ما توافر لعدوهم من العدد والعدة …
ثقيل الوطأة عليهم بسبب الفيلة التي أرهبت خيلهم، وزرعت في قلوبها الخوف، وجعلتها تنكص (٦) على الأعقاب …
وأنهم يترقبون بلهفة وصول المدد إليهم من بلاد الشام.
ولكنه لم يكن مع القعقاع بن عمرو غير ألف فارس، وماذا تغني الألف أمام جيوش فارس الجرارة؟!.
ولكن القائد الملهم؛ جعل الألف في عيون المسلمين وعيون أعدائهم المشركين ألوفا …
وإليكم نبأ ذلك:
قسم القعقاع بن عمرو فرسانه الألف إلى عشر فرق؛ في كل فرقة مائة فارس، وأمر الفرقة الأولى أن تنطلق في اتجاه جيوش المسلمين، وأن تتعمد إثارة الغبار من حولها حتى تشحن به الجو شحنا.
ثم أمر الفرق التسع الأخرى أن تفعل فعل الأولى؛ على ألا تنطلق أي فرقة من مكانها؛ إلا إذا أصبحت سابقتها بعيدة عنها بمقدار مد البصر.
* * *
ثم انطلق على رأس الفرقة الأولى مكبرا، وكان صوته بألف فارس - كما قال عنه الصديق رضوان الله عليه - ومر بسعد بن أبي وقاص وبشره بالمدد …
فما إن رأى العسكران: عسكر الفرس وعسكر المسلمين؛ سنابك الخيل تثير العجاج (٧) …
وسمعا أصوات التكبيرة تهز الأرجاء هزا …
ونظرا إلى النجدات تتوالى كتيبة إثر كتيبة؛ حتى دب الذعر في نفوس الفرس، وثارت الحمية في صدور المسلمين؛ فجعلوا يهللون ويكبرون بأصوات صدعت (٨) أفئدة عدوهم صدعا.
ومضى القعقاع إلى الساحة مع أول خيط من خيوط الصباح بين التهليل والتكبير.
وبرز إلى الأعداء قبل أن تبدأ المعركة …
وجعل يخطر (٩) على جواده بين الصفين ويقول:
هل من مبارز؟ … هل من مبارز؟.
فتوجهت العيون إلى معسكر الفرس لترى من سيبرز للقعقاع بن عمرو.
* * *
لم تمض غير لحظات قليلات على حماسة (١٠) القعقاع وجراءته؛ حتى خرج من صفوف الأعداء فارس مدجج بالسلاح وقال:
أنا لك … أتدري من أنا؟ …
أنا "بهمن" ذو الحاجب قائد جيوش فارس يوم الجسر (١١) …
أنا قاتل قائدكم أبي عبيدة الثقفي وأصحابه.
فقال له القعقاع بن عمرو: يا لثارات يوم الجسر - وكان يوم الجسر أشد الأيام على المسلمين، وكان صاحب ذلك اليوم "بهمن" ذو الحاجب -.
* * *
امتشق القعقاع بن عمرو حسامه، وصال على "بهمن" صولة الأسد الخادر (١٢) فلما تمكن منه، وتهيأت له الضربة القاضية؛ كف عنه ليطيل عذابه …
ثم ما زال يعيد الهجمة عليه الكوة تلو الكرة ويكف عنه، وقلوب الفرس واجفة، وعيونهم زائغة، والمسلمون يصيحون:
الله أكبر … الله أكبر.
أجهز (١٣) عليه يا قعقاع …
اثأر لأبي عبيد الثقفي وأصحابه.
فأهوى عليه القعقاع بضربة من سيفه؛ طرحته أرضا، وتركته يسبح في دمائه سبحا.
فضج معسكر المسلمين بالتهليل والتحميد، وتردد في أرجاء القادسية أصداء "الله أكبر".
* * *
لم يترك القعقاع بن عمرو الساحة؛ وإنما وقف ينادي في تحد:
هل من مبارز؟.
فخرج له فارسان معلمان (١٤) من أبطال الفرس في وقت معا؛ فتلقاهما هو والحارث بن ظبيان … وسقياهما من الكأس التي شرب منها ذو الحاجب في لحظات معدودات.
ثم نادى القعقاع:
يا معشر المسلمين؛ باشروا أعداءكم بالسيوف؛ انقضوا على أعداء الله وأعدائكم بالرماح …
فإذا خالطتموهم فباشروهم بالسيوف؛ فإنما تحصد الأرواح بالمرهفات (١٥) حصدا.
فتواثب المسلمون على عدوهم تواثب الأسود، وانقضوا عليه انقضاض الصقور، وجعلوا ينادون: يا لثارات البارحة.
* * *
لم ينزل الفرس فيلتهم في هذا اليوم إلى المعركة …
ذلك لأن المسلمين كانوا بالأمس قد قطعوا وضنها (١٦)، وحطموا توابيتها التي يجلس فيها الفيالة على ظهورها …
ولم تكن يد الليل بقادرة على إصلاح ما خربته يد النهار.
فأمر القعقاع جماعات من بني عمومته أن يستحضروا عشرات من ضخام الإبل، وأن يجللوها (١٧) بالملاءات السود، وأن يبرقعوها (١٨) بالبراقع
الملونة، وأن يركبوا ظهورها، وأن يهاجموا بها خيل الفرس.
فما إن رأتها الخيل مقبلة؛ حتى جفلت (١٩) منها؛ كما جفلت خيل المسلمين من الفيلة …
وحرنت (٢٠) في أماكنها؛ فما تتقدم خطوة ولا تتأخر …
ثم ما لبثت أن ارتدت على أعقابها مولية بمن عليها الأدبار؛ فركب المسلمون ظهور الفرسان الفارين وأعملوا في رقابهم السيوف والرماح.
* * *
لم تغب شمس اليوم الثاني من أيام القادسية حتى كان القعقاع بن عمرو قد حمل على الفرس ثلاثين حملة، وأردى من صناديدهم ثلاثين قتيلا بنفسه.
ولما توقف القتال؛ كان المسلمون يكبرون ويهتفون:
يوم بيوم …
﴿ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز﴾ (٢١).
* * *
كان ذلك بلاء القعقاع بن عمرو في اليوم الثاني من أيام القادسية.
أما بلاؤه في اليومين الثالث والرابع؛ فسيأتيك نبؤه بإذن الله.
_________
(١) عبيدة بن الجراح: انظره في الكتاب الثاني من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(٢) أنفذهم حثيثا: أي أرسلهم سريعا.
(٣) سعد بن أبي وقاص: انظره في الكتاب الرابع من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(٤) تتريث أو تتلبث: تتمهل أو تتأخر.
(٥) الكلال: العناء التعب.
(٦) تنكص على الأعقاب: ترجع وتحجم عما كانت عليه من أمر.
(٧) العجاج: مفردها عجاجة وهي السحابة من الغبار.
(٨) صدعت: شقت وفرقت.
(٩) يخطر: يمشي متبخترا.
(١٠) حماسة: شجاعة.
(١١) يوم الجسر: انظر خبره في أبي عبيد بن مسعود الثقفي ص ١٥٥.
(١٢) الخادر: الشديد القوي.
(١٣) أجهز عليه: اقض عليه وأهلكه.
(١٤) الفارس المعلم: الذي يعلم مكانه في الحرب بعلامة يعلمها هو، وهي علامة على شجاعته.
(١٥) المرهفات: السيوف المرققة المحددة.
(١٦) الوضن: جمع مفرده وضين: وهو للهودج بمنزلة الحزام للسرج.
(١٧) يجللوها: يغطوها ويعمموا الغطاء على سائر بدنها.
(١٨) يبرقعوها: أي يلبسوها البرقع، وهو غطاء للوجه فيه فتحتان للعينين.
(١٩) جفلت: نفرت.
(٢٠) حرنت: وقفت وامتنعت عن التقدم.
(٢١) سورة الحج آية ٤٠.
مختارات