78. القعقاع بن عمرو مع خالد بن الوليد
القعقاع بن عمرو مع خالد بن الوليد
"إن صوت القعقاع بن عمرو في الجيش لخير من ألف فارس" [أبو بكر الصديق]
ها نحن أولاء في العام التاسع للهجرة؛ وهو العام الذي دعاه المسلمون عام الوفود.
وها هي ذي مدينة الرسول صلوات الله وسلامه عليه تفتح صدرها الرحب … لتستقبل مع إشراقة كل صباح وفدا أو أكثر؛ قدموا عليها من أنحاء الجزيرة العربية …
ليعلنوا إسلامهم بين يدي النبي، ويبايعوه على السمع والطاعة.
وها هم أولاء السادة الأماجد (١) من وجوه بني تميم يذعنون للإسلام بعد طول نفار (٢)، ويقدمون على المدينة مسلمين طائعين …
ويبسطون أيديهم للرسول صلوات الله وسلامه عليه مبابعين.
وبينما كان القوم يعلنون إسلامهم بين يدي النبي الكريم ﷺ ويأخذون جوائزهم التي أمر لهم بها …
كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه يتوسم (٣) فتى منهم، ويتفرس في
وجهه … ثم ما لبث أن حدق فيه، وقال:
(ما اسم الفتى؟).
فقال: القعقاع بن عمرو.
فقال: (ما أعددت للجهاد في سبيل الله يا قعقاع؟).
فقال: طاعة الله ورسوله، والخيل الصافنات، والرماح المرهفات (٤).
فقال: (تلك الغاية).
ومنذ ذلك اليوم؛ وضع القعقاع بن عمرو نفسه وسيفه في طاعة الله ورسوله ﷺ، وجعل مفرشه صهوات الجياد.
فتعال نقض هذه اللحظات الرائعات مع القعقاع بن عمرو، وقائده سيف الإسلام خالد بن الوليد (٥) ﵁ وأرضاه.
* * *
ما كاد خالد بن الوليد يسلم جنبه إلى الراحة بعد الفراغ من حروب الردة؛ حتى جاءه كتاب أبي بكر الصديق رضوان الله عليه يأمره فيه بالتوجه لفتح بلاد العراق، واستنقاذها من أيدي الفرس، وإدخال أهلها في دين الله.
لكن جنود خالد كانوا قد تناقصوا، وتفرقوا …
حيث استشهد منهم من استشهد في حروب الردة الطاحنة، وسرح منهم إلى أهله من سرح؛ بعد أن طال بينه وبينهم العهد.
فلم يبق مع خالد من جيشه الكبير إلا العدد اليسير.
فكتب إلى أبي بكر الصديق يطلب منه المدد …
فلما فض (٦) الصديق رضوان الله عليه كتاب خالد، ووقف على ما فيه؛ قال لمن معه:
إن خالد بن الوليد يطلب منا مددا؛ فأمدوه بالقعقاع بن عمرو.
ففغر (٧) الحاضرون أفواههم دهشة مما سمعوه، وقالوا:
يا أمير المؤمنين أتمد قائدا انفض (٨) عنه أكثر جنده برجل واحد؟!.
فقال الصديق رضوان الله عليه: نعم …
فإن صوت القعقاع بن عمرو في الجيش لخير من ألف فارس …
وإنه لا يهزم جيش فيه القعقاع …
* * *
مضى خالد بن الوليد على رأس عشرة آلاف من جنده نحو العراق ومعه القعقاع بن عمرو؛ الذي عده عليه الصديق رضوان الله عليه بألف فارس.
ووجه وجهه شطر منطقة "الحفير" الواقعة على مقربة من الخليج الفارسي؛ مما يلي الصحراء.
وكان "هرمز" أميرا لهذه المنطقة من قبل ملك الفرس.
و"هرمز" - إن كنت لا تعلم - أحد الرجال القلائل الذين تم لهم الشرف من الفرس في عصره.
ولا أدل على شرفه الذي بلغه من قلنسوته (٩) التي تساوي مائة ألف.
إذ كان من عادة الفرس أن يجعلوا قلانسهم على قدر شرفهم في
قومهم … فمن بلغ الغاية في الشرف؛ فقيمة قلنسوته مائة ألف.
غير أن "هرمز" كان من أسوإ أمراء الفرس معاملة للعرب، وأشدهم غطرسة (١٠) عليهم.
فكره العرب "هرمز" أشد الكره؛ حتى جعلوه مضربا للمثل في الشر فكانوا يقولون في أمثالهم:
"أشر من هرمز"، "وأكفر من هرمز".
* * *
ما إن حط خالد بن الوليد رحاله في المنطقة؛ حتى وجه كتابا إلى "هرمز" يقول فيه:
أما بعد … فأسلم تسلم، أو اختر لنفسك وقومك الذمة (١١)، وادفعوا للمسلمين الجزية عن يد وأنتم صاغرون …
وإلا فلا تلومن إلا نفسك …
فقد جئتك بقوم يحبون الموت؛ كما تحبون الحياة.
* * *
طار صواب "هرمز" لما قرأ رسالة خالد بن الوليد، وكتب إلى "أزدشير" ملك الفرس يخبره بقدوم المسلمين نحو العراق …
ثم هب من ساعته ورص صفوفه وجمع جموعه، وأسرع بهم نحو موارد الماء في الحفير، ونزل عليها قبل أن يصل إليها خالد بجيشه.
فلما بلغ خالد بن الوليد الحفير أمر جنده بأن يلقوا رحالهم في مكان
اختاره لهم؛ فقام إليه نفر (١٢) منهم وقال:
أيها الأمير إن عدونا على ماء ونحن على غير ماء، وإنا لنخشى أن نموت عطشا.
فقال لهم خالد:
ألا حطوا رحالكم حيث أمرتكم، ثم جالدوا (١٣) عدوكم على الماء مجالدة المستميتين …
فلعمري؛ ليصيرن الماء لأصبر الفريقين، وأكرم الجندين …
وأنتم الأصبر والأكرم بإذن الله.
* * *
اصطف العسكران كل منهما قبالة الآخر.
ووقف "هرمز" في مقدمة جنده، وجعل عن يمينه أميرا من أمراء البيت المالك، وعن شماله أميرا آخر.
وكان قد أضمر (١٤) في نفسه شرا، وطوى صدره على غدرة.
* * *
لقد أيقن "هرمز" أنه إذا استطاع أن يقتل خالد بن الوليد؛ فإنه يكون قد قطع أربعة أخماس الطريق إلى النصر.
لكنه كان على يقين بأنه ليس في وسعه أن يقتله مكافحة (١٥).
وما دام الأمر كذلك؛ فليقتله غدرا …
وليتحدث الناس عنه بعد ذلك بما يشاؤون، وليرموه (١٦) بما يريدون.
فأسر إلى فريق من خاصة فرسانه بما عقد عليه العزم، وأحكم معهم الخطة، وحدد لكل منهم مهمته.
* * *
خرج "هرمز" من بين الصفوف، ووقف في الساحة التي تفصل بين العسكرين، وهتف هتاف المتحدي، وأخذ يقول:
إلي يا خالد … ابرز لي يا خالد.
لكنه جعل وقفته قريبا من معسكر الفرس بعيدا عن معسكر المسلمين …
فما إن سمع خالد بن الوليد نداءه؛ حتى ترجل عن جواده، ومضى إلى لقائه.
غير أن خالدا ما كاد يشهر سيفه ليصاول (١٧) عدو الله وعدوه؛ حتى وثب عليه الرجال الذين أعدهم "هرمز" وثبة واحدة، وسيوفهم مصلتة (١٨) في أيديهم يريدون قتله غدرا.
وهنا هب الفارس الذي عده الصديق رضوان الله عليه بألف فارس، وانطلق من مكانه انطلاق السهم، وقذف بنفسه في الساحة وهو يقول:
لقد جاءك القعقاع بن عمرو يا عدو الله …
لقد جاءك القعقاع.
ثم انصب على "هرمز" ورجاله انصباب الصاعقة، وتبعه رجال أنجاد
أمجاد من جيش المسلمين …
فدارت بين الفريقين معركة خاطفة؛ استل خلالها خالد روح "هرمز" من بين جنبيه …
وصرع القعقاع ومن معه العصبة الغادرة العابثة بآداب الحروب، وألقوهم جثثا هامدة في ساحة المعركة على مرأى من الفرس ومسمع …
فلم يجرؤ أحد منهم على أن يحرك ساكنا.
ثم كر المسلمون على عدوهم كرة واحدة؛ فأزالوهم عن مواقعهم وحملوهم على أن يولوا الأدبار، وطوحوا (١٩) بهم بين قتيل وجريح وهزيم …
ولما وضعت المعركة أوزارها؛ نظر خالد إلى القعقاع بن عمرو وقال:
لله در (٢٠) أبي بكر؛ فإنه أعرف منا بالرجال …
لقد صدق خليفة رسول الله ﷺ حين قال:
إن جيشا فيه القعقاع بن عمرو لا يغلب.
* * *
وثق يوم الحفير ما بين خالد بن الوليد والقعقاع بن عمرو …
ولا غرو؛ فقد عرف خالد مقام صاحبه في ساحات الوغى، وغناءه (٢١) إذا جد الجد، وألمت الملمات.
فولاه القيادات، وألقى على كاهله أثقل المهمات …
وجعله ساعده الأيمن في اليرموك، وغير يوم اليرموك …
وكان له معه يوم فتح دمشق مغامرة لا يجرؤ على اقتحامها؛ إلا أولئك الذين قدت (٢٢) قلوبهم من الصخر، وصيغت أذهانهم من الجوهر.
* * *
كان خالد بن الوليد يوم فتح دمشق واحدا من أربعة قواد يعملون تحت إمرة أبي عبيدة بن الجراح (٢٣).
لكن خالدا؛ سواء أكان قائدا عاما للجيش كله أم قائد كتيبة من كتائبه؛ فإنه كان يحرص أشد الحرص على أن يكون القعقاع بن عمرو معه.
ذلك لأن خالدا كان يطمح دائما إلى أن يأتي هو ومن معه بالمعجزات …
ومن مثل القعقاع بن عمرو لصنع المعجزات؟!.
* * *
كانت مدينة دمشق إذ ذاك تحيط بها الأسوار المنيعة من كل جانب؛ إحاطة السوار بالمعصم.
وكان حولها خندق عميق يطوفها من جهاتها الثلاث، وكانت لها أبواب خمسة؛ تفتح في أوقات السلم مع إشراقة كل صباح ليخرج الناس منها ويدخلوا إليها، وتغلق مع كل مساء؛ لينام الناس في حماها آمنين مطمئنين على أنفسهم وأموالهم من السراق والطراق (٢٤).
فإذا تعرضت المدينة العريقة لغزو غاز؛ أغلق حماتها أبوابها، وغمروا خندقها بالمياه …
فإذا هي جزيرة منيعة؛ محوطة بالأسوار والمياه في وقت معا.
* * *
وزع أبو عبيدة بن الجراح أبواب دمشق على نفسه وعلى قواده؛ فنزل هو أمام باب الجابية …
ونزل عمرو بن العاص (٢٥) أمام باب توماء …
ونزل شرحبيل بن حسنة أمام باب الفراديس …
ونزل يزيد بن أبي سفيان (٢٦) أمام الباب الصغير.
أما خالد بن الوليد؛ فنزل هو وصاحبه القعقاع بن عمرو أمام الباب الشرقي، وكان أمنع هذه الأبواب وأشدها قوة.
* * *
نصب المسلمون منجنيقاتهم (٢٧) حول المدينة الحصينة، وأقاموا دباباتهم (٢٨) عند أبوابها.
فرد حماة المدينة جنود الدبابات، وثبتت حصونهم لرمي المنجنيقات …
فلم يجد المسلمون وسيلة لإرغام العدو على الاستسلام؛ إلا الحصار.
* * *
لكن حصار دمشق طال حتى بلغ سبعة أشهر؛ أو نحوا من ذلك.
ولم يكن ضيق المحاصرين داخل دمشق بأشد من ضيق المحاصرين لها
من الخارج؛ فقد بات المسلمون يتساءلون فيما يشبه اليأس:
كيف لنا بفتح المدينة ومتى؟!.
فجاءهم الجواب على لسان خالد بن الوليد وصاحبه القعقاع بن عمرو.
* * *
كانت لخالد بن الوليد آذان تسمع كل ما يقال خلف أسوار دمشق، وعيون ترى كل ما يجري فيها …
فجاءته عيونه (٢٩) ذات يوم؛ تقول:
أيها الأمير؛ إن بطريق (٣٠) دمشق قد ولد له على الكبر مولود بعد طول ترقب؛ ففرح به أشد الفرح …
ولقد بلغ من فرحه أنه دعا حماة المدينة وجندها في ليلة غد إلى وليمة جفلى (٣١)؛ سيأكلون فيها روائع الطعام، ويشربون خلالها عتيق الخمور، ويطربون حتى الصباح، وإن عليك أيها الأمير أن تهتبل (٣٢) هذه الفرصة.
بادر القائد الملهم؛ فصنع سلالم من الحبال وأعد لغزوته هذه طائفة وافية من الأوهاق (٣٣).
* * *
فلما دجا (٣٤) الليل ولف الكون بظلامه؛ قال خالد لجنوده:
إنا سنرقى إلى السور؛ فإذا سمعتم تكبيرنا …
فليصعد نفر كبير منكم خلفنا، ولتتدفق بقيتكم على الباب.
ثم مضى هو والقعقاع بن عمرو، وثلة (٣٥) قليلة من أصحابه؛ فعبروا الخندق عوما على القرب (٣٦) حتى وصلوا أسوار المدينة … ثم قذفوا أوهاقهم فأثبتوها في شرفات السور، وتسلقوا عليها حتى ركبوا أعاليه …
ونصبوا سلالم الحبال التي معهم من خارج السور لمن يريد أن يرقى (٣٧) إليه، ومن داخله لمن يريد أن ينزل إلى المدينة … ثم كبر خالد؛ فعبر جنده الخندق …
ثم انحدر هو والقعقاع بن عمرو أمام الباب؛ فقتلوا حماته، وفتحوا أقفاله …
وتدفق جند الله على المدينة من أعلى ومن أسفل، واندفعوا داخل دمشق مهللين مكبرين …
فدب في المدينة الحصينة الذعر والجزع، وسيطر على حماتها الاضطراب والهلع، وشاور بعضهم بعضا …
فرأوا أن يفتحوا الأبواب الأخرى للمدينة بأيديهم؛ ليدخلها المسلمون سلما بدلا من أن يدخلوها حربا … فيقتلوا المقاتلة، ويسبوا الذراري، ويحرزوا الغنائم …
ففتحوها …
ولو لم يفعلوا؛ لفتحها المسلمون بنصر من الله.
* * *
وإلى لقاء آخر مع القعقاع بن عمرو الذي وضع نفسه وسيفه ورمحه في طاعة الله ورسوله ﷺ، وجعل مفرشه على صهوات الجياد.
_________
(١) الأماجد: جمع ماجد، وهو العظيم الكريم.
(٢) نفار: هرب ومجانبة ومحاربة.
(٣) يتوسم: يأمل الخير ويتوقعه.
(٤) الرماح المرهفات: التي سنت فرقت حواشيها.
(٥) خالد بن الوليد: انظره ص ١٨٧.
(٦) فض الكتاب: فتحه.
(٧) ففغروا أفواههم: فتحوها بدهشة.
(٨) انفض: تفرق.
(٩) القلنسوة: غطاء الرأس.
(١٠) الغطرسة: التجبر والتطاول.
(١١) الذمة: الدخول في عهد المسلمين وحمايتهم.
(١٢) النفر: الجماعة.
(١٣) جالدوا عدوكم: قاتلوهم.
(١٤) أضمر في نفسه: أخفى في نفسه ونوى.
(١٥) مكافحة: أي مضاربة وجها لوجه.
(١٦) ليرموه بما يريدون: ليتهموه بما يريدون.
(١٧) ليصاول: لينازل.
(١٨) مصلتة: مجردة.
(١٩) طوحوا بهم: أهلكوهم وذهبوا بهم.
(٢٠) لله در أبي بكر: ما أكثر خير أبي بكر.
(٢١) غناءه: كفايته ودفعه.
(٢٢) قدت: قطعت.
(٢٣) أبو عبيدة بن الجراح: انظره في الكتاب الثاني من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(٢٤) السراق: مفرده سارق، والطراق: مفرده طارق وهو الآتي ليلا.
(٢٥) عمرو بن العاص: انظره في الكتاب الثامن من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(٢٦) يزيد بن أبي سفيان: انظره ص ٢٦٩.
(٢٧) المنجنيق: آلة حربية ترمى بها القذائف من الصخور ونحوها.
(٢٨) الدبابة: آلة تتخذ في الحروب؛ يدخل فيها الرجال، ثم تدفع في أصل الحصن فينقبون وهم في جوفها.
(٢٩) العيون: الجواسيس.
(٣٠) البطريق: القائد ذو الرتبة.
(٣١) وليمة جفلى: أي عامة يجفل إليها الناس بجماعتهم.
(٣٢) تهتبل: تغتنم.
(٣٣) الأوهاق: حبال متينة في رأس كل منها أنشوطة يقذفها الرامي الحاذق فتعلق بما رميت عليه.
(٣٤) دجا الليل: أظلم.
(٣٥) ثلة: جماعة.
(٣٦) القرب: أوعية من الجلد.
(٣٧) يرقى إليه: يصعد.
مختارات