51. عبد الله بن سلام
عبد الله بن سلام
"من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى عبد الله بن سلام"
كان الحصين بن سلام حبرا (١) من أحبار اليهود في "يثرب".
وكان أهل المدينة على اختلاف مللهم ونحلهم (٢) يجلونه ويعظمونه.
فقد كان معروفا بين الناس بالتقى والصلاح موصوفا بالاستقامة والصدق.
* * *
وكان الحصين يحيا حياة هادئة وادعة؛ ولكنها كانت في الوقت نفسه جادة نافعة … فقد قسم وقته أقساما ثلاثة:
فشطر في الكنيس (٣) للوعظ والعبادة …
وشطر في بستان له يتعهد نخله بالتشذيب والتأبير (٤) …
وشطر مع التوراة (٥) للتفقه في الدين …
* * *
وكان كلما قرأ التوراة وقف طويلا عند الأخبار التي تبشر بظهور نبي في مكة يتمم رسالات الأنبياء السابقين ويختمها.
وكان يستقصي أوصاف هذا النبي المرتقب وعلاماته، ويهتز فرحا لأنه سيهجر بلده الذي بعث فيه وسيتخذ من "يثرب" مهاجرا له (٦) ومقاما.
وكان كلما قرأ هذه الأحبار أو مرت بخاطره يتمنى على الله أن يفسح له في عمره حتى يشهد ظهور هذا النبي المرتقب، ويسعد بلقائه، ويكون أول المؤمنين به.
* * *
وقد استجاب الله جل وعز دعاء الحصين بن سلام فنسأ له (٧) في أجله حتى بعث نبي الهدى والرحمة …
وكتب له أن يحظى بلقائه وصحبته، وأن يؤمن بالحق الذي أنزل عليه.
فلنترك للحصين الكلام ليسوق لنا قصة إسلامه فهو لها أروى (٨)، وعلى حسن عرضها أقدر … قال الحصين بن سلام:
لما سمعت بظهور رسول الله ﷺ أخذت أتحرى عن اسمه ونسبه وصفاته وزمانه ومكانه، وأطابق بينها وبين ما هو مسطور (٩) عندنا في الكتب حتى استيقنت من نبوته، وتثبت من صدق دعوته، ثم كتمت ذلك عن اليهود، وعقلت (١٠) لساني عن التكلم فيه …
إلى أن كان اليوم الذي خرج فيه الرسول من مكة قاصدا المدينة.
فلما بلغ "يثرب"، ونزل "بقباء" (١١) أقبل رجل علينا وجعل ينادي في الناس معلنا قدومه … وكنت ساعتئذ في رأس نخلة لي أعمل فيها، وكانت عمتي خالدة بنت الحارث جالسة تحت الشجرة، فما إن سمعت الخبر حتى هتفت: الله أكبر … الله أكبر.
فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري: خيبك الله …
والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادما ما فعلت شيئا فوق ذلك …
فقلت لها: أي عمة (١٢)، إنه - والله - أخو موسى بن عمران، وعلى دينه …
وقد بعث بما بعث به …
فسكتت وقالت: أهو النبي الذي كنتم تخبروننا أنه يبعث مصدقا لمن قبله، ومتمما لرسالات ربه؟!.
فقلت: نعم …
قالت: فذاك إذن …
ثم مضيت من توي (١٣) إلى رسول الله ﷺ، فرأيت الناس يزدحمون ببابه، فزاحمتهم حتى صرت قريبا منه.
فكان أول ما سمعته منه قوله: (أيها الناس أفشوا السلام … وأطعموا الطعام … وصلوا بالليل والناس نيام … تدخلوا الجنة بسلام … ).
فجعلت أتفرس فيه، وأتملى (١٤) منه؛ فأيقنت أن وجهه ليس بوجه كذاب.
ثم دنوت منه، وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
فالتفت إلي وقال: (ما اسمك؟).
فقلت: الحصين بن سلام.
فقال: (بل عبد الله بن سلام).
فقلت: نعم، عبد الله بن سلام … والذي بعثك بالحق ما أحب أن لي به اسما آخر بعد اليوم.
ثم انصرفت من عند رسول الله ﷺ إلى بيتي ودعوت زوجتي وأولادي وأهلي إلى الإسلام؛ فأسلموا جميعا وأسلمت معهم عمتي خالدة، وكانت شيخة كبيرة … ثم إني قلت لهم:
اكتموا إسلامي وإسلامكم عن اليهود حتى? آذن لكم!!.
فقالوا: نعم.
ثم رجعت إلى رسول الله ﷺ وقلت له:
يا رسول الله، إن اليهود قوم بهتان وباطل.
وإني أحب أن تدعو وجوههم (١٥) إليك.
وأن تسترني عنهم في حجرة من حجراتك ثم تسألهم عن منزلتي عندهم قبل أن يعلموا بإسلامي ثم تدعوهم إلى الإسلام.
فإنهم إن علموا أنني أسلمت عابوني، ورموني بكل ناقصة وبهتوني (١٦) …
فأدخلني رسول الله ﷺ في بعض حجراته، ثم دعاهم إليه وأخذ يحضهم على الإسلام، ويحبب إليهم الإيمان، ويذكرهم بما عرفوه في كتبهم من أمره …
فجعلوا يجادلونه بالباطل، ويمارونه (١٧) في الحق، وأنا أسمع، فلما يئس من إيمانهم قال لهم: (ما منزلة الحسين بن سلام فيكم؟).
فقالوا: سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا وابن حبرنا وعالمنا.
فقال: (أفرأيتم إن أسلم أفتسلمون؟).
قالوا: حاشا لله، ما كان ليسلم … أعاذه الله من أن يسلم.
فخرجت إليهم وقلت:
يا معشر اليهود، اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به محمد …
فوالله إنكم لتعلمون أنه لرسول الله، وتجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته …
وإني أشهد أنه رسول الله وأومن به، وأصدقه، وأعرفه …
فقالوا: كذبت، والله إنك لشرنا وابن شرنا، وجاهلنا وابن جاهلنا، ولم يتركوا عيبا إلا عابوني به.
فقلت لرسول الله ﷺ.
ألم أقل لك: إن اليهود قوم بهتان وباطل، وإنهم أهل غدر وفجور؟.
* * *
أقبل عبد الله بن سلام على الإسلام إقبال الظامئ الذي شاقه المورد (١٨) …
وأولع بالقرآن؛ فكان لسانه لا يفتأ رطبا بآياته البينات …
وتعلق بالنبي صلوات الله وسلامه عليه حتى غدا ألزم له من ظله …
ونذر نفسه للعمل للجنة حتى بشره بها رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بشارة ذاعت بين الصحابة الكرام وشاعت …
وكان لهذه البشارة قصة رواها قيس بن عباد وغيره.
قال الراوي:
كنت جالسا في حلقة من حلقات العلم في مسجد رسول الله ﷺ في المدينة.
وكان في الحلقة شيخ تأنس به النفس، ويستروح به القلب.
فجعل يحدث الناس حديثا حلوا مؤثرا …
فلما قام قال القوم:
من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا.
فقلت: من هذا؟!.
فقالوا: عبد الله بن سلام.
فقلت في نفسي: والله لأتبعنه؛ فتبعته … فانطلق حتى كاد أن يخرج من المدينة، ثم دخل منزله … فاستأذنت عليه؛ فأذن لي.
فقال: ما حاجتك يا بن أخي؟
فقلت له: سمعت القوم يقولون عنك - لما خرجت من المسجد -:
من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا.
فمضيت في إثرك، لأقف على خبرك، ولأعلم كيف عرف الناس أنك من أهل الجنة.
فقال: الله أعلم بأهل الجنة يا بني.
فقلت: نعم … ولكن لا بد لما قالوه من سبب.
فقال: سأحدثك عن سببه.
فقلت: هات … وجزاك الله خيرا.
فقال: بينا (١٩) أنا نائم ذات ليلة على عهد رسول الله ﷺ أتاني رجل فقال لي: قم، فقمت، فأخذ بيدي، فإذا أنا بطريق عن شمالي فهممت أن أسلك فيها …
فقال لي: دعها فإنها ليست لك …
فنظرت فإذا أنا بطريق واضحة عن يميني فقال لي:
اسلكها …
فسلكتها حتى أتيت روضة غناء واسعة الأرجاء (٢٠)، كثيرة الحضرة رائعة النضرة.
وفي وسطها عمود من حديد أصله في الأرض ونهايته في السماء.
وفي أعلاه حلقة من ذهب.
فقال لي: ارق عليه.
فقلت: لا أستطيع (٢١).
فجاءني وصيف (٢٢) فرفعني، فرقيت (٢٣) حتى صرت في أعلى العمود، وأخذت بالحلقة بيدي كلتيهما.
وبقيت متعلقا بها حتى أصبحت.
فلما كانت الغداة أتيت رسول الله ﷺ وقصصت عليه رؤياي فقال:
(أما الطريق التي رأيتها عن شمالك؛ فهي طريق أصحاب الشمال من أهل النار …
وأما الطريق التي رأيتها عن يمينك؛ فهي طريق أصحاب اليمين من أهل الجنة …
وأما الروضة التي شاقتك بحضرتها ونضرتها؛ فهي الإسلام …
وأما العمود الذي في وسطها؛ فهو عمود الدين …
وأما الحلقة؛ فهي العروة الوثقى …
ولن تزال مستمسكا بها حتى تموت) … (*).
_________
(١) الحبر: رئيس الكهنة عند اليهود، والحبر: العالم المتبحر في العلم أيضا.
(٢) نحلهم: أديانهم.
(٣) الكنيس: معبد اليهود.
(٤) التأبير: تلقيح النخل وإصلاحه.
(٥) التوراة: الكتاب الذي أنزل على موسى ﵇.
(٦) مهاجرا له: بفتح الجيم مكانا لهجرته.
(٧) نسأ: أخر.
(٨) أروى: أجود رواية.
(٩) مسطور: مكتوب.
(١٠) عقلت لساني: ربطته ومنعته.
(١١) قباء: قرية على بعد ميلين من المدينة.
(١٢) أي عمة: يا عمة.
(١٣) من توي: فورا من غير إبطاء.
(١٤) أتملى منه: أملأ عيني منه.
(١٥) وجوههم: رؤساؤهم وسادتهم.
(١٦) البهتان: افتراء الكذب.
(١٧) يمارونه: ينازعونه.
(١٨) شاقه المورد: لذ له المورد وطاب.
(١٩) بينا: عندما.
(٢٠) الأرجاء: الأنحاء.
(٢١) لا أستطيع: لا أقدر.
(٢٢) الوصيف: الخادم.
(٢٣) فرقيت: فصعدت.
مختارات