52. خالد بن سعيد بن العاص
خالد بن سعيد بن العاص
"كان أبي خامسا … وهو أول من كتب بسم الله الرحمن الرحيم" [بنت خالد]
في ذات مساء من أماسي مكة الهادئة الهائنة الوادعة … خرج سعيد بن العاص بن أمية المكنى "بأبي أحيحة" من دارته في أعلى "الحجون" (١) يريد الحرم … وقد اعتم بعمامته الحمراء التمينة الزاهية …
وخلع على منكبيه بردا (٢) من حلل ملوك "اليمن" موشى بخيوط الذهب …
ومشى بين يديه طائفة من غلمانه المقلدين بالسيوف، وكان عن يمينه بعض أولاده، وعلى رأسهم ابنه خالد.
وكان عن شماله طائفة من رجال قومه بني "عبد شمس" وهم يخطرون (٣) في حلل الديباج والسندس.
فلما أطل "أبو أحيحة" على الحرم قال الناس:
لقد أقبل "ذو التاج" … وكانوا يلقبونه بذلك؛ لأنه كان إذا توج رأسه بعمامة فلا يعتم أحد من قريش بعمامة من لونها حتى ينزعها.
فأوسع الناس الطريق له ولمن معه حتى أخذ مجلسه تحت الكعبة.
وهنا أقبل عليه أبو سفيان بن حرب، وعتبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وغيرهم من سادة قريش يحيونه، فقال لهم:
ما خبر سمعته أن سعد بن أبي وقاص (٤) تبع محمدا؟!.
وأنه اجترأ على رجل من قريش؛ فشج رأسه، وأسال دمه، لأنه نهاه عن الصلاة لغير آلهتنا … ثم قال: واللات والعزى (٥) إن ظللتم على تهاونكم هذا مع محمد بن عبد الله مداراة لبني "هاشم" لأنهضن له وحدي …
ولأمنعن إله ابن أبي كبشة (٦) أن يعبد في مكة …
ثم عاد في مثل الموكب الذي جاء به؛ فلم يتخلف عنه أحد غير ابنه خالد.
* * *
لقد ظل خالد بن سعيد بن العاص في الحرم يتنقل بين مجالس القوم ليتنسم (٧) أخبار محمد، ويتسمع لما يقال عن دعوته.
فلم يجد في كل ما سمعه عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه ما يبرر ذلك الحقد الذي رآه من أبيه على محمد وأصحابه … أو ما يسوغ تلك الضغينة (٨) التي كانت تتنزى في نفسه ونفوس سادة قريش.
* * *
ولما أقبل الليل عاد خالد بن سعيد إلى دارتهم، ومضى إلى مخدعه دون أن يمر بحجرة أبيه ليلقي عليه تحية المساء كما كان يفعل كل يوم …
ثم استلقى على فراشه الوثير (٩) يريد النوم.
لكن النوم لم يوات (١٠) خالدا ولم تكتحل به عيناه؛ فقد استبد به أرق أطار الرقاد من عينيه.
وكان الذي يشغل باله أمر محمد، وما يدعو إليه؛ وخوفه من أن يبطش أبوه به بطشة الجبارين.
* * *
وفي الهزيع الأخير من الليل نهكه النعاس فأسلم جفنيه للكرى (١١).
وما هو إلا قليل حتى هب مذعورا ممتقع (١٢) الوجه؛ يرتجف من هول ما رأى … ويهتر من فرط ما عانى وهو يقول:
أحلف بالله إن هذه الرؤيا لرؤيا حق … وإني ما رأيت كذبا.
* * *
لقد رأى خالد نفسه واقفا على شفير (١٣) واد سحيق (١٤) من أودية جهنم لا يدرك الطرف مداه، ولا يعرف المرء قراره …
وكانت تتلظى (١٥) فى هذا الوادي نار لها شهيق وزفير يخلعان القلوب خلعا … ويهصران النفوس هصرا (١٦).
فلما هم بالابتعاد عن شفير الوادي برز له أبوه، وأخذ يشده إلى النار بعنف؛ فجعل يقاوم أباه أشد المقاومة …
ويصارعه أقسى المصارعة حتى إذا فل (١٧) عزمه، وأوشك أن يهوي إلى شفير جهنم … فإذا محمد بن عبد الله يقبل عليه، ويأخذ بحزامه بكلتا يديه، ويجذبه إليه جذبا، وينقذه من السقوط في شفير وادي جهنم.
* * *
ما كاد ينبلج (١٨) الصبح حتى مضى خالد بن سعيد إلى منزل أبي بكر الصديق رضوان الله عليه … ذلك لأنه كان يأنس به ويطمئن له.
فقص عليه رؤياه، فقال له أبو بكر:
لقد أراد الله بك خيرا يا خالد …
فالله سبحانه قد بعث محمد بن عبد الله بدين الهدى والحق.
.
وسيظهر هذا الدين على الدين كله ولو كره المشركون …
فاتبعه يا خالد.
فإن اتبعته فتحت لك أبواب الجنة، وحيل دونك ودون النار …
أما أبوك فواقع في جهنم التي أراد أن يوقعك فيها …
* * *
انطلق خالد بن سعيد إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه …
وكان النبي ﷺ يومئذ يتعبد الله سرا في "أجياد" (١٩)، فحياه وقال:
إلى أي شيء تدعونا يا محمد؟.
فقال: (أدعوكم: إلى أن تؤمنوا بالله وحده لا شريك له، وأني عبده ورسوله … وأن تخلعوا ما أنتم عليه من عبادة حجر لا يرى، ولا يسمع …
ولا يضر، ولا ينفع … ولا يفرق بين من عبده، وبين من أعرض عنه).
فانبسطت أسارير (٢٠) خالد وقال:
أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبد الله ورسوله.
فكان خالد بن سعيد بن العاص خامس خمسة أو سادس ستة أسلموا على ظهر الأرض … إذ لم يسبقه إلى هذا الفضل العظيم غير خديجة بنت
خويلد، وزيد بن حارثة (٢١)، وعلي بن أبي طالب، وأبي بكر الصديق، وسعد ابن أبي وقاص ﵃ أجمعين.
* * *
ترك خالد بن سعيد قصر أبيه المنيف (٢٢) في أعلى "الحجون" وأعرض عن حياته الغضة (٢٣) المترفة، وعيشه الرغيد (٢٤) الناعم.
ولحق بالرسول صلوات الله وسلامه عليه، وجعل يتنقل معه ومع أصحابه بين شعاب مكة، فيتملى من مشاعر الإيمان …
ويحفظ ما ينزل على النبي الكريم ﷺ من آي القرآن، ويعبد الله سرا خوفا من أذى قريش …
فلما طالت غيبة خالد عن البيت افتقده أبوه فلم يجده؛ فبعث العيون (٢٥) وراءه … فجاءته الأخبار تقول: إنه أسلم وتبع محمدا.
* * *
جن جنون سيد مكة؛ فما كان يظن ظنا أن أحد أولاده تبلغ به الجرأة أن يخرج على سلطانه، ويكفر باللات والعزى، ويلحق بمحمد.
وأرسل إليه مولاه "رافعا" وأخويه "أبان" و "عمر"؛ فوجدوه يصلي في بعض الشعاب (٢٦) صلاة هزت قلوبهم هزا.
.
وأترعت (٢٧) أفئدتهم راحة واطمئنانا …
وملات نفوسهم سلاما وأمانا.
فقالوا له: إن أباك يدعوك للقائه، وقد استشاط (٢٨) غضبا لتركك المنزل دون إذن منه.
فمضى خالد معهم حتى إذا صار عند أبيه حياه بتحية الإسلام.
فقال له أبوه: تبا لك، أصبأت (٢٩) عن دينك ودين آبائك وأجدادك، وتبعت محمدا؟!.
فقال خالد: لم أصبأ، وإنما آمنت بالله وحده لا شريك له، وصدقت بنبوة رسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه …
ونبذت (٣٠) هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله.
فقال أبوه: ويحك، أتقول: إنك صدقت هذا المدعي؟.
فقال خالد: ما هو بمدع …
وإنما هو صادق يبلغ رسالات ربه …
وينصح لي ولك وللناس أجمعين.
فقال أبوه: لا بد من أن تعرض عنه وتكذبه.
فقال خالد: لا أفعل ما دام في عرق ينبض.
فقال أبوه: إذن أحرمك من رزقي.
فقال خالد: ذلك أهون ما انتظرته منك، وأقل ما توقعته …
فالله الذي رزقك يرزقني.
فتميز (٣١) سيد بني "عبد شمس" غيظا منه … وانهال (٣٢) عليه بعصا
غليظة أعدها له؛ فشج رأسه، وأسال دمه …
وما زال يضربه حتى جعل الدم ينبثق من رأسه وجسده انبثاقا.
ثم أمر به فشد عليه وثاقه (٣٣)، وحبس في غرفة مظلمة …
ومنع عنه الطعام والشراب ثلاثة أيام …
ثم جاءه في اليوم الرابع نفر من أهله وقالوا:
كيف أنت يا خالد؟.
فقال: إني أتقلب في نعم الله ﷿.
فقالوا: أما آن لك أن تثوب إلى رشدك (٣٤)، وتطيع أباك؟!.
فقال: أما رشدي فما فارقني وما فارقته …
وأما أبي فلا أطيعه فيما يعصى به الله ﷿ …
فقالوا: قل لأبيك كلمة ترضيه في اللات والعزى يفرج عنك.
فقال: إن اللات والعزى حجران أصمان أبكمان …
وإني لا أقول فيهما إلا ما يرضي الله ورسوله … وليفعل بي ما يشاء.
* * *
شد "أبو أحيحة" وثاق خالد، وأمر أتباعه أن يخرجوا به كل يوم عند الهاجرة (٣٥) إلى بطحاء مكة … وأن يلقوه بين الحجارة حتى تصهره الشمس.
فكان كلما أخرجوه وألقوه في الهاجرة يقول:
الحمد لله الذي أكرمني بالإيمان، وأعزني بالإسلام …
إن ذلك كله أهون علي من لحظة عذاب في جهنم التي أراد أن يلقيني فيها "أبو أحيحة" …
وجزى الله نبيه وصفيه عني وعن المسلمين أكرم الجزاء.
ثم حانت لخالد فرصة؛ فتفلت من سجن أبيه، ومضى إلى نبيه صلوات الله وسلامه عليه …
ثم ما لبث أن لحق به أخواه عمر وأبان، وانضما معه إلى موكب الخير والنور … عند ذلك أسقط (٣٦) في يدي "أبي أحيحة" وقال:
واللات والعزى لأعزلن بمالي بعيدا عن مكة، فذلك خير لي …
ولأهجرن أولئك الصباة (٣٧) الذين يعيبون آلهتي وأربابي.
ثم انتقل إلى قرية قريبة من "الطائف"، وظل فيها حتى مات كمدا (٣٨) وهو على الشرك.
* * *
ولما أذن الرسول صلوات الله وسلامه عليه لأصحابه بالهجرة إلى "الحبشة"، نزح إليها خالد بن سعيد بن العاص ومعه زوجته أمينة بنت خلف الخزاعية … وقد أقام فيها بضع عشرة سنة داعيا إلى الله، ولم يغادرها إلى المدينة إلا بعد أن فتح الله على المسلمين "خيبر".
فسر الرسول بمقدمه أبلغ السرور، وقسم له من غنائم "خيبر" كما قسم للمحاربين …
ثم ولاه "اليمن"، فظل واليا عليها إلى أن لحق الرسول الكريم ﷺ بجوار ربه.
* * *
وفي عهد الصديق ﵁ انضوى (٣٩) خالد بن سعيد بن العاص تحت لواء الجيش المتجه إلى بلاد الشام لحرب الروم، فأبلى (٤٠) في ميادين القتال بلاء يليق بفارس كمي (٤١) مثله.
وقبيل معركة "مرج الصفر" التي وقعت بالقرب من "دمشق"، خطب خالد أم حكيم بنت الحارث (٤٢) وعقد عليها، فلما أراد أن يعرس بها قالت:
يا خالد حبذا لو أخرت إلى أن ينفض الناس من تلك المعركة التي أرانا مقدمين عليها.
فقال لها: إن نفسي تحدثني بأني سأصاب فيها.
ثم أعرس بها … وفي صباح اليوم الذي تلا زفافه أولم (٤٣) لأصحابه، فما كادوا يفرغون من طعامهم حتى صفت الروم جنودها صفا وراء صف …
وخرج واحد من فرسانهم يطلب مبارزا (٤٤)، فبرز له حبيب بن سلمة وقتله … فخرج فارس آخر وطلب مبارزا، فبرز له خالد بن سعيد …
وتصاول (٤٥) الفارسان وتجاولا …
ثم سدد (٤٦) كل منهما لصاحبه ضربة قاتلة.
فأصاب سيف الرومي، وأخطأ سيف خالد فخر صريعا شهيدا …
ثم التحم الجيشان، ودارت بينهما رحى معركة طحون (٤٧) كان لا يسمع فيها إلا وقع السيوف على هام (٤٨) الرجال.
عند ذلك هبت أم حكيم كاللبؤة (٤٩) التي أخذ منها أشبالها (٥٠) …
فشدت عليها ثياب عرسها …
واقتلعت عمود الفسطاط (٥١) الذي شهد ليلة زفافها، وخاضت المعركة مع الخائضين …
فأردت (٥٢) سبعة من فرسان الروم.
ثم ظلت تقاتل حتى انجلت المعركة عن نصر مؤزر (٥٣) للإسلام والمسلمين.
* * *
لقد كان ثمن هذا النصر أرواح طاهرة زكية مضت إلى ربها راضية مرضية.
وكانت روح خالد بن سعيد بن العاص ترفرف بينها في حبور (٥٤).
ولقد رأى قاتله بأم عينيه نورا يسطع في كبد السماء، ثم يتلألأ فوق خالد، وبين يديه …
فندم على قتله أشد الندم …
وكان ذلك سببا في دخوله في دين الله مع الداخلين (*).
_________
(١) الحجون: مكان في مكة قريب من الحرم.
(٢) البرد: ثوب يتلفع الإنسان به أو يضعه فوق كتفيه.
(٣) يخطرون: يمشون متبخترين.
(٤) سعد بن أبي وقاص: انظره ص ٢٨١.
(٥) اللات والعزى: صنمان كانا يعبدان في الجاهلية … انظر هدم الأصنام في كتاب "حدث في رمضان" للمؤلف.
(٦) أبو كبشة: هو الحارث بن عبد العزى بن رفاعة السعدي زوج حليمة السعدية أم الرسول ﷺ من الرضاعة.
(٧) يتنسم الأخبار: يتبع الأخبار شيئا فشيئا.
(٨) الضغينة: الحقد والكره.
(٩) الفراش الوثير: اللين المريح.
(١٠) لم يوات: لم يأت.
(١١) الكرى: النوم.
(١٢) ممتقع الوجه: متغير اللون مفزوع.
(١٣) شفير: حافة.
(١٤) سحيق: عميق بعيد الغور.
(١٥) تتلظى: تلتهب.
(١٦) هصرا: يعصرها عصرا.
(١٧) فل عزمه: ضعف ووهن.
(١٨) ينبلج: يسفر ويضيء.
(١٩) أجياد أو جياد: شعب من شعاب مكة لا يزال موجودا الآن بجوار الحرم الشريف.
(٢٠) أسارير الوجه: ملامحه وتقاسيمه.
(٢١) زيد بن حارثة: انظره ص ٢١١.
(٢٢) المنيف: العالي المرتفع.
(٢٣) الغضة المترفة: اللينة المرفهة.
(٢٤) عيشه الرغيد: المنعم الرخي.
(٢٥) بعث العيون: بعث بعض الناس يستطلعون أخباره.
(٢٦) الشعاب: الطرق.
(٢٧) أترعت: ملأت.
(٢٨) استشاط غضبا: التهب غضبا.
(٢٩) صبأت: كفرت وخرجت عن دينك.
(٣٠) نبذت: تركت.
(٣١) فتميز غيظا: تقطع بسبب الغيظ.
(٣٢) انهال عليه: صار يضربه.
(٣٣) الوثاق: القيد والحبل.
(٣٤) تثوب إلى رشدك: تعود إلى عقلك.
(٣٥) الهاجرة: وقت الظهيرة.
(٣٦) أسقط في يدي فلان: تحير فما عاد يدري ما يفعل.
(٣٧) الصباة: الذين تركوا دين آبائهم واتبعوا الإسلام.
(٣٨) مات كمدا: مات محسورا مكمودا.
(٣٩) انضوى: انطوى، صار جنديا تحت لوائه.
(٤٠) أبلى: أظهر من الشجاعة والإقدام ما يعد ابتلاء للخصم وامتحانا.
(٤١) فارس كمي: شجاع.
(٤٢) أم حكيم: كانت من قبل زوجة عكرمة بن أبي جهل.
(٤٣) أولم لأصحابه: صنع لهم وليمة.
(٤٤) مبارزا: المبارزة هي الحرب المنفردة فارسا لفارس.
(٤٥) تصاول الفارسان: وثب كل منهما على صاحبه.
(٤٦) سدد: صوب إلى صاحبه.
(٤٧) طحون: طاحنة قاسية.
(٤٨) هام الرجال: رؤوس الرجال.
(٤٩) اللبؤة: أنثى الأسد.
(٥٠) أشبالها: الأسود الصغيرة، يعني أولادها الصغار.
(٥١) الفسطاط: الخيمة.
(٥٢) فأردت: قتلت.
(٥٣) نصر مؤزر: نصر قوي مبين.
(٥٤) حبور: فرح وسرور.
مختارات