فقه الزهد (١)
قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (٢٨)} [الكهف: ٢٨].
وقال الله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٣١)} [طه: ١٣١].
الزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة، وترك كل ما يشغل عن الله، وإسقاط الرغبة عن الشيء بالكلية، وسفر القلب من وطن الدنيا، وأخذه في منازل الآخرة بترك الحرام، وترك الفضول من الحلال.
وفضول الحلال إن شغلت العبد عن ربه فالزهد فيها أفضل، وإن لم تشغله عن الله، بل كان شاكراً لله فيها فحاله أفضل، والزهد فيها تجريد القلب عن التعلق بها، والطمأنينة إليها.
ومعنى الزهد هو انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه، والزهد في الدنيا مقام شريف.
وحال الزهد يستدعي مرغوباً عنه، ومرغوباً فيه هو خير من المرغوب عنه، والمرغوب عنه شرطه أن يكون مرغوباً فيه بوجه من الوجوه.
فمن رغب عما ليس مطلوباً في نفسه لا يسمى زاهداً.
فتارك الحجر والتراب لا يسمى زاهداً، وإنما يسمى زاهداً من ترك الدراهم والدنانير لله.
وشرط المرغوب فيه أن يكون عنده خيراً من المرغوب عنه.
وكل من باع الدنيا بالآخرة فهو زاهد في الدنيا، وكل من باع الآخرة بالدنيا فهو زاهد في الآخرة.
فالأول رابح.
والثاني خاسر.
ولكن العادة جارية بإطلاق لفظ الزهد على من زهد في الدنيا.
وليس من الزهد بذل المال على سبيل السخاء واستمالة القلوب، وعلى سبيل الطمع، فذلك كله من محاسن العادات، ولا مدخل لشيء منه في العبادات.
وإنما الزهد أن تترك الدنيا لأجل الله، لعلمك بحقارة الدنيا ونفاسة الآخرة.
وقد يبذل الإنسان المال طمعاً في الذكر والثناء والشهرة بالسخاء، أو استثقالاً له لما في حفظه من المشقة.
والحاجة إلى التذلل للغير ليس من الزهد أصلاً، بل هو استعجال حظ آخر للنفس.
بل الزاهد حقاً من أتته الدنيا راغمة صفواً عفواً وهو قادر على التنعم بها من غير نقصان جاه، ولا فوات حظ للنفس، فتركها خوفاً من أن يأنس بها، فيكون آنساً بغير الله، ومحباً لما سوى الله، أو تركها طمعاً في ثواب الآخرة، فترك التمتع في أطعمة وأشربة الدنيا طمعاً في أطعمة وأشربة الآخرة.
فآثر جميع ما وعده الله به في الجنة على ما تيسر له في الدنيا عفواً صفواً، لعلمه بأن ما في الآخرة خير وأبقى كما قال سبحانه: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٣١)} [طه: ١٣١].
ويقتصر الزاهد في الدنيا على المهمات فيأخذ منها بقدر الحاجة وهي:
المطعم.
والملبس.
والمسكن.
والمنكح.
والمركب.
والمال.
والأثاث.
فأما المطعم فلا بدَّ للإنسان من قوت حلال يقيم صلبه، ويستعين به على طاعة ربه، ويأكل في اليوم والليلة في النوع والمقدار والحال كما كان يأكل إمام الزهاد - صلى الله عليه وسلم -.
وأما الملبس فيلبس ما يدفع الحر والبرد، ويستر العورة، ويلبس في النوع والمقدار كلبسه - صلى الله عليه وسلم -.
وأما المسكن فيسكن بيتاً على قدر حاجته من غير زيادة، ولا زينة، ولا إسراف، وأما أثاث البيت فيكون بقدر حاجته، ولا يأنف من الدون من الأثاث.
والمنكح يقتصر منه على ما لا يشغله عن ربه، وطاعته، وذكره، وعبادته، والزواج من سنن المرسلين، فلا غنى له عنه إلا من علة.
وأما المركب فيتخذ ما يحتاجه؛ لئلا يضطر إلى سؤال الناس، وليستعين به على طاعة الله، فيركب بقدر حاله كما فعل إمام أهل الزهد - صلى الله عليه وسلم -، والمراكب تختلف فيركب ما تيسر بقدر حاله من دابة أو سيارة.
وأما المال والجاه فهو وسيلة إلى ما سبق، والزاهد من يزهد في ذلك، ولا يسعى لطلب المحل في القلوب، فإن زهده وعبادته تمهد له من المحل في القلوب ما يدفع به عنه الأذى ولو كان بين الكفار، فكيف وهو بين المسلمين.
وتوكله على ربه واستغناؤه بما في يده يغنيه عن الجمع والاستكثار، فلينفق لينفق الله عليه.
ومن علامات الزهد:
أن لا يفرح بموجود، ولا يحزن على مفقود كما قال سبحانه: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (٢٣)} [الحديد: ٢٣].
وأن يستوي عنده ذامه ومادحه، فالأول علامة الزهد في المال، والثاني علامة الزهد في الجاه، وأن يكون أنسه بالله تعالى، والغالب على قلبه حلاوة الطاعة، إذ لا يخلو القلب عن حلاوة المحبة: إما محبة الدنيا.
وإما محبة الله.
وهما في القلب كالماء والهواء في الإناء، فإذا دخل الماء خرج الهواء، فلا يجتمعان، وكذلك الأنس بالدنيا وبالله لا يجتمعان.
وأن تكون عبادته في الخفاء أقوى منها في العلانية.
وأن يستوي عنده التراب والذهب؛ لقوة توكله وزهده.
العطاء أحب إليه من الأخذ، غفور شكور، حليم صبور، عزيز كريم، خاشع القلب، دائم الذكر والفكر فيما يرضي الله.
مختارات