تدبر سورة آل عمران (4)
ورُغم عِظم البلاء وفداحة المصاب؛ إلا أن المتبقين من الرِّبَيين ثبتوا وتجلَّدوا ولم يهتزُّوا أو ينقلِبوا كما حذَّر الله في سورة آل عمران: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران من الآية:144]..
لم يتدرَّج الرِّبَيُّون في مهاوي العجز، ولم يتردُّوا في هاوية الاستكانة..
هاوية أول دركاتها الوهن..
وما أدراك ما الوهن..
الوهن هو بداية ضعف القلب وتصدُّع بنيان الثوابت واختلال المبادئ والقيم..
الوهن هو حب الدنيا والتعلُّق بأهدابها جنبًا إلى جنبٍ مع كراهة الموت..
لقد أدرك الرِّبَيِّون خطورة تلك الدركة على سُلَّم الفشل فلم يطئوها كما وطئها للأسف كثيرٌ من الخلق مِمَّن استُدرِجوا، الوهن: الإحباط والتأثر بأذى متوقع؛ قال عنه مولاهم في نفس السورة: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:186].
لم يهن الرِّبَيُّون وبالتالي لم ينحدروا لِما بعد الوهن وهو الضعف الظاهر وبداية العجز الذي يؤدي آخر المطاف إلى الشلل الكامل، وهو ما سمَّاه الله بالاستكانة وهي الاستسلام والخضوع والذلة أمام ضربات العدو المتوالية: {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146].
لقد استعاضوا عن دركات سُلَّم الفشل والاستسلام بأجنحة الصبر، وتمسَّكوا بحبال الأمل رغم كل الصعاب والمصائب التي ألمَّت بهم وبأنبيائهم، ولم يخفهم فى ذاك الوقت إلا أمرٍ واحد..
ذنوبهم!
أَلهؤلاء الربيون ذنوب؟!
بالطبع؛ أَوَ ليسوا بشرًا يخطئون ويُصِيبون؟!
بلى، لكن الفارق بين الرِّبيين وبين الغافلين أن الأولين قد علِموا أن ذنوبهم خطر يتهدَّدهم ويتهدَّد أُمّتهم، بينما نظر الآخرون إلى ذنوبهم كأنما هي بعوض حطَّ على وجوههم أشاحوا بأيديهم فأزاحوه!
لم تشغلهم قعقات المعركة ولا صليل السيوف عن الدعاء والاستغفار، لأنهم يعلمون أن وقع الذنوبوالمعاصي على جيوشهم وجماعاتهم المؤمنة قد يكون أشد وأنكى وأفتك مما تفعله أعتى الأسلحة!
لم يتجاهلوا ذلك المبدأ الإسلامي ولم يفعلوا كَمَن أهمله ولم يرفع به رأسًا، وذهب يبحث عن نصره -فقط- بين ظلال الأسباب المادية، غير مبالٍ بذنب يقترف ولا مكترثٍ بخطيئة ترتكب، ولا ملتفتٍ إلى معاصٍ تُجتَرح.
لقد فَهِم الرِّبَيُّون ذلك المعنى وعلِموا خطورة الذنب فجعلوا يدعون ويبتهلون: {ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران من الآية:147]..
فلمَّا جمعوا ما بين الثبات والصمود والأخذ بأسباب القوة والعزيمة وبين خشية الله والتضرُّع إليه والاعتراف بين يديه بالذنب والإسراف واستغفروا وأنابوا، ثم استنصروا واستفتحوا؛ حلَّ النصر من الإله وجاءت البُشرى: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:148]..
فثواب الدنيا النصر والعِزَّة، وحسن ثواب الآخرة في الجنان، فضلًا من الله ونِعمة، وميَّز ثواب الآخرة بالحُسن لما فيه من تفاوت عظيم في الدرجات لا يُدانيه تفاوت درجات الدنيا، قال الله تعالي: {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء من الآية:21]..
جاء النصر وهلَّت البِشارة لمَّا وُجِدَت هذه الطائفة الربانية..
لمَّا وُجِدَ في الأمة من لديه هذا المزيج الفريد من الثبات والصمود والإخبات والخشية..
إنه مزيج الرِّبيين الذين استحقوا تنزُّل النصر المبين.
**************
ولماذا محمد صلى الله عليه وسلم؟!
لماذا كان هذا الارتباط وترسَّخت تلك الصلة وتغلغلت في النفوس تلك المشاعر تجاهه؟!
ما الشيء الذي رآه زيد رضي الله عنه وجعله يختار محمدًا صلى الله عليه وسلم على أبيه وأهله؟!
ما الذي جعل الصديق رضي الله عنه يفتديه بنفسه وخبيب رضي الله عنه لا يقبل أن يُشاك حبيبه بشوكةٍ وهو آمنٌ في بيته؟!
ما الذي دفع المرأة أن تُقدِّم السؤال عنه صلى الله عليه وسلم على سؤالها عن ولدها وأبيها وأخيها وزوجها؟!
ما الذي رآه هؤلاء وأولئك وغيرهم؟!
ما الذي جمعهم حوله بهذه الصورة البديعة والارتباط الراسخ؟!
يُجيبك المولى جل وعلا ويُبيِّن لك السِرّ الذي أدَّى لهذا الاجتماع المذهل والارتباط الوثيق: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران من الآية:159].
تأمَّل مرةً أخرى..
أربعُ صفاتٌ أخلاقيةٌ سلوكيِّةٌ حوتهم هذه الآية..
صفتان منهما ليس النبي من أهلهما وصفتان بُعِثَ بهما..
لقد بُعِثَ بالرحمة وأُرسِلَ باللين {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]..
ولقد تنزَّه عن الفظاظة والغِلظة..
ولو اتصف بتلكما الصفتين الأخيرتين فبِنصِّ الآية المحكمة الواضحة - لانفض الناس من حوله..
لنقض هذا الاجتماع الوثيق..
لانهار ذلك الرباط القوي المتين..
ولتفرَّق الناس وانفضوا من حوله..
لقد عاشوا معه ورأوا من صفاته وسلوكه ومكارِمُ أخلاقٍ بُعِثَ ليُتمِّمها - ما غرس محبته في قلوبهم ومكَّن لتوقيره في نفوسهم.
مختارات