50. الربيع بن زياد الحارثي
الربيع بن زياد الحارثي
"ما صدقني أحد منذ استخلفت كما صدقني الربيع بن زياد" [عمر بن الخطاب]
هذه مدينة رسول الله ﷺ ما تزال تكفكف أحزانها (١) على فقد الصديق …
وها هي ذي وفود الأمصار تقدم كل يوم على "يثرب" مبايعة خليفته عمر بن الخطاب على السمع والطاعة في المنشط والمكره (٢) …
وفي ذات صباح قدم على أمير المؤمنين وفد "البحرين" مع طائفة أخرى من الوفود.
وكان الفاروق رضوان الله عليه شديد الحرص على أن يسمع كلام الوافدين عليه؛ لعله يجد فيما يقولونه موعظة بالغة، أو فكرة نافعة، أو نصيحة لله ولكتابه ولعامة المسلمين.
فندب عددا من الحاضرين للكلام فلم يقولوا شيئا ذا بال.
فالتفت إلى رجل توسم (٣) فيه الخير، وأومأ إليه وقال: هات ما عندك.
فحمد الرجل الله وأثنى عليه ثم قال:
إنك يا أمير المؤمنين ما وليت أمر هذه الأمة إلا ابتلاء من الله ﷿ ابتلاك به … فاتق الله فيما وليت، واعلم أنه لو ضلت شاة بشاطئ الفرات لسئلت عنها يوم القيامة.
فأجهش (٤) عمر بالبكاء وقال:
ما صدقني أحد منذ استخلفت كما صدقتني، فمن أنت؟!.
فقال: الربيع بن زياد الحارثي.
فقال عمر: أخو "المهاجر بن زياد"؟.
فقال الربيع: نعم.
فلما انفض المجلس دعا عمر بن الخطاب أبا موسى الأشعري وقال:
تحر (٥) أمر الربيع بن زياد، فإن يك صادقا فإن فيه خيرا كثيرا، وعونا لنا على هذا الأمر … واستعمله واكتب لي بخبره.
* * *
لم يمض على ذلك اليوم غير قليل حتى أعد أبو موسى الأشعري جيشا لفتح "مناذر" من أرض "الأهواز" بناء على أمر الخليفة، وجعل في الجيش الربيع بن زياد وأخاه "المهاجر".
* * *
حاصر أبو موسى الأشعري "مناذر" وخاض مع أهلها معارك طاحنة قلما شهدت لها الحروب نظيرا.
فقد أبدى المشركون من شدة البأس وقوة الشكيمة (٦) ما لم يخطر على بال، وكثر القتل في المسلمين كثرة فاقت كل تقدير.
وكان المسلمون يومئذ يقاتلون وهم صائمون رمضان.
فلما رأى "المهاجر" أخو الربيع بن زياد أن القتل قد كثر في صفوف
المسلمين عزم على أن يشري (٧) نفسه ابتغاء مرضاة الله، فتحنط (٨) وتكفن وأوصى أخاه …
فمضى الربيع إلى أبي موسى وقال: إن "المهاجر" قد أزمع أن يشري نفسه وهو صائم، والمسلمون قد اجتمع عليهم من وطأة الحرب، وشدة الصوم ما أوهن (٩) عزائمهم، وهم يأبون الإفطار فافعل ما ترى.
فوقف أبو موسى الأشعري، ونادى في الجيش:
يا معشر المسلمين، عزمت (١٠) على كل صائم أن يفطر؛ أو يكف عن القتال … وشرب من إبريق كان معه ليشرب الناس بشربه.
فلما سمع "المهاجر" مقالته جرع جرعة من الماء وقال:
والله ما شربتها من عطش ولكنني أبررت عزمة أميري (١١) …
ثم امتشق حسامه وطفق يشق به الصفوف، ويجندل (١٢) الرجال غير وجل ولا هياب … فلما أوغل في جيش الأعداء أطبقوا عليه من كل جانب، وتعاورته (١٣) سيوفهم من أمامه ومن خلفه حتى خر صريعا …
ثم إنهم احتزوا رأسه ونصبوه على شرفة مطلة على ساحة القتال.
فنظر إليه الربيع، وقال: طوبى (١٤) لك، وحسن مآب …
والله لأنتقمن لك ولقتلى المسلمين إن شاء الله.
فلما رأى أبو موسى ما نزل بالربيع من الجزع على أخيه، وأدرك ما ثار
من الحفيظة في صدره على أعداء الله، تخلى له عن قيادة الجيش، ومضى إلى "السوس" لفتحها.
* * *
هب الربيع وجنده على المشركين هبوب الإعصار (١٥)، وانصبوا على معاقلهم انصباب الصخور إذا حطها السيل من عل؛ فمزقوا صفوفهم وأوهنوا بأسهم (١٦)، ففتح الله "مناذر" للربيع بن زياد عنوة …
فقتل المقاتلة، وسبى الذرية، وغنم ما شاء الله أن يغنم.
* * *
لمع نجم الربيع بن زياد بعد معركة "مناذر" وذاع اسمه على كل لسان.
وأصبح أحد القادة المرموقين (١٧) الذين يرجون لجلائل الأعمال …
فلما عزم المسلمون على فتح "سجستان" عهدوا إليه بقيادة الجيش، وأملوا على يديه النصر بإذن الله.
* * *
مضى الربيع بن زياد بجيشه الغازي في سبيل الله إلى "سجستان" عبر مفازة طولها خمسة وسبعون فرسخا، تعيا (١٨) عن قطعها الوحوش الكاسرة من بنات الصحراء.
فكان أول ما عرض له "رستاق زالق" (١٩) على حدود "سجستان" وهو رستاق عامر بالقصور الفحمة، محوط بالحصون الشامخة، وافر الخيرات كثير الثمار.
* * *
بث القائد الأريب (٢٠) عيونه في "رستاق زالق" قبل أن يصل إليه … فعلم أن القوم سيحتفلون قريبا بمهرجان لهم، فتربص (٢١) بهم حتى بغتهم (٢٢) في ليلة المهرجان على حين غرة (٢٣) وأعمل في رقابهم السيف وأخذهم عنوة.
فسبى (٢٤) منهم عشرين ألفا، ووقع "دهقانهم" (٢٥) في يده أسيرا …
وكان بين السبي مملوك "للدهقان"، فوجدوه قد جمع ثلاثمائة ألف ليحملها إلى سيده.
فقال له الربيع: من أين هذه الأموال؟!
فقال: من إحدى قرى مولاي.
فقال له: وهل تعطيه قرية واحدة مثل هذا المال كل سنة؟!.
قال: نعم.
فقال الربيع: وكيف؟!!.
قال: بفؤوسنا، ومناجلنا، وعرقنا.
* * *
ولما وضعت المعركة أوزارها (٢٦) تقدم "الدهقان" إلى الربيع يعرض عليه افتداء نفسه وأهله.
فقال له الربيع: أفديك إذا أجزلت للمسلمين الفدية …
فقال: وكم تبغي؟.
فقال الربيع: أركز (٢٧) هذا الرمح في الأرض ثم تصب عليه الذهب والفضة حتى تغمره غمرا.
فقال: رضيت، واستخرج ما في كنوزه من الأصفر والأيبض وطفق يصبها على الرمح حتى غطاه …
* * *
توغل الربيع بن زياد بجيشه المنتصر في أرض "سجستان"، فطفقت تتساقط الحصون تحت سنابك (٢٨) خيله كما تتساقط أوراق الشجر تحت عصف رياح الخريف.
وهب أهل المدن والقرى يستقبلونه مستأمنين (٢٩) خاضعين قبل أن يشهر في وجوههم السيف؛ حتى بلغ مدينة "زرنج" عاصمة "سجستان".
فإذا بالعدو قد أعد لحربه العدة، وكتب للقائه الكتائب (٣٠)، واستقدم لمواجهته النجدات، وعقد العزم على أن يذوده (٣١) عن المدينة الكبيرة، وأن يوقف زحفه على "سجستان" مهما كان الثمن غاليا.
ثم دارت بين الربيع وأعدائه رحى حرب طحون (٣٢) لم يضن عليها أي من الفريقين بما تطلبته من الضحايا.
فلما بدرت أول بادرة من بوادر النصر للمسلمين رأى "مرزبان" (٣٣) القوم المدعو"برويز" أن يسعى لمصالحة الربيع، وهو ما تزال فيه بقية من قوة، لعلة يحظى لنفسه ولقومه بشروط أفضل …
فبعث إلى الربيع بن زياد رسولا من عنده يسأله أن يضرب له موعدا للقائه؛ ليفاوضه على الصلح فأجابه إلى طلبه.
* * *
أمر الربيع رجاله أن يعدوا المكان لاستقبال "برويز"، وطلب منهم أن يكدسوا حول المجلس أكواما من جتث قتلى الفرس …
وأن يطرحوا على جانتي الطريق الذي سيمر به "برويز"، جثثا أخرى? منثورة في غير نظام.
وكان الربيع طويل القامة، عظيم الهامة، شديد السمرة، ضخم الجثة يبعث الروع في نفس من يراه.
فلما دخل عليه "برويز" ارتعدت فرائصه جزعا منه، وانخلع فؤاده هلعا من منظر القتلى فلم يجرؤ على الدنو منه، وخاف فلم يتقدم لمصافحته …
وكلمه بلسان متلجلج ملتاث، وصالحه على أن يقدم له ألف وصيف (٣٤) وعلى رأس كل وصيف جام (٣٥) من الذهب؛ فقبل الربيع وصالح "برويز" على ذلك.
وفي اليوم التالي دخل الربيع بن زياد المدينة يحف به هذا الموكب من الوصفاء بين تهليل المسلمين وتكبيرهم …
فكان يوما مشهودا من أيام الله.
* * *
ظل الربيع بن زياد سيفا مصلتا في يد المسلمين يصولون به على أعداء الله؛ ففتح لهم المدن، وولي لهم الولايات حتى آل الأمر إلى بني "أمية"، فولاه معاوية بن أبي سفيان "خراسان" …
بيد أنه لم يكن منشرح الصدر لهذه الولاية …
وقد زاده انقباضا منها وكرها لها أن "زياد بن أبيه" أحد كبار ولاة بني "أمية" بعث إليه كتابا يقول فيه:
"إن أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان يأمرك أن تستبقي الأصفر والأبيض (٣٦) من غنائم الحرب لبيت مال المسلمين، وتقسم ما سوى ذلك بين المجاهدين" … فكتب إليه يقول:
"إني وجدت كتاب الله (٣٧) ﷿ يأمر بغير ما أمرتني به على لسان أمير المؤمنين".
ثم نادى في الناس: أن اغدوا على غنائمكم فخذوها …
ثم أرسل الخمس (٣٨) إلى دار الخلافة في "دمشق" …
* * *
ولما كان يوم الجمعة الذي تلا وصول هذا الكتاب؛ خرج الربيع بن زياد إلى الصلاة في ثياب بيض، وخطب الناس خطبة الجمعة، ثم قال:
أيها الناس إني قد مللت الحياة، وإني داع بدعوة، فأمنوا على دعائي.
ثم قال: اللهم إن كنت تريد بي خيرا فاقبضني إليك عاجلا غير آجل …
فأمن الناس على دعائه.
فلم تغب شمس ذلك اليوم حتى لحق الربيع بن زياد بجوار ربه (*).
_________
(١) تكفكف أحزانها: تهدئ أحزانها وتمنعها من الاسترسال.
(٢) في المنشط والمكره: في العسر واليسر.
(٣) توسم فيه الخير: توقع فيه الخير.
(٤) أجهش بالبكاء: بكى بصوت عال.
(٥) تحر أمر الربيع: تعرف على أحواله.
(٦) قوة الشكيمة: شدة الصبر وقوة الجلد.
(٧) يشري نفسه: يبيع نفسه.
(٨) تحنط: وضع على نفسه الحنوط، وهو نوع من الطيب يذر على جسد الميت.
(٩) أوهن: أضعف.
(١٠) عزمت: أقسمت.
(١١) أبررت عزمة أميري: أمضيت قسم أميري ونفذته.
(١٢) يجندل: يصرع.
(١٣) تعاورته سيوفهم: تداولته سيوفهم.
(١٤) طوبى لك: السعادة والغبطة والعيش الطيب لك.
(١٥) الإعصار: ريح شديدة تثير التراب وتقتلع الأشجار.
(١٦) أوهنوا بأسهم: أضعفوا قوتهم وضعضعوها.
(١٧) المرموقين: الذين يرمقهم الناس بعيونهم إعجابا بهم.
(١٨) تعيا: تعجز.
(١٩) رستاق زالق: مدينة كبيرة حصينة في "سجستان".
(٢٠) الأريب: الذكي التبيه.
(٢١) تربص بهم: انتظرهم.
(٢٢) بغتهم: نزل عليهم بغتة.
(٢٣) على حين غرة: على غفلة وهم لا يشعرون.
(٢٤) سبى عشرين ألفا: أسرهم واسترقهم.
(٢٥) الدهقان: كلمة فارسية معناها رئيس الإقليم.
(٢٦) وضعت المعركة أوزارها: انتهت.
(٢٧) أركز هذا الرمح في الأرض: أثبته في الأرض.
(٢٨) سنابك خيله: حوافر خيله.
(٢٩) مستأمنين: طالبين الأمان.
(٣٠) كتب الكتائب: أعد قطع الجيش ونظمها ونسقها.
(٣١) يذوده: يدفعه.
(٣٢) حرب طحون: حرب شديدة تطحن المحاربين طحنا.
(٣٣) مرزبان القوم: رئيس القوم، وهي كلمة فارسية.
(٣٤) الوصيف: الغلام.
(٣٥) جام: كأس.
(٣٦) الأصفر والأبيض: كتابة عن الذهب والفضة.
(٣٧) كتاب الله: القرآن الكريم … انظر سورة الأنفال: آية ٤١.
(٣٨) أي أرسل خمس غنائم الحرب لبيت مال المسلمين، والأخماس الأربعة الباقية قسمها على المقاتلين.
مختارات