44. ذو البجادين
ذو البجادين
عبد الله المزني
"لقد نادت الدنيا ذا البجادين، فأصم أذنيه عن سماع أصواتها، وأقبل على الآخرة يطلبها من كل سبيل"
على يمين الراكب من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة جبل أخضر السفوح …
نضير الذرى (١) …
وارف الظلال (٢).
.
يدعى جبل "ورقان".
وكان يسكن هذا الجبل بطن من بطون قبيلة "مزينة".
* * *
في شعب (٣) من شعاب ذلك الجبل القريب من "يثرب" ولد "عبد العزى بن عبد نهم المزني" لأبوين فقيرين.
وقد كان ميلاده قبيل مطلع النور في مكة المكرمة بزمن يسير.
غير أن يد المنون ما لبثت أن اخترمت (٤) والد الطفل "المزني" وهو لم يدرج (٥) بعد، فتحالف (٦) عليه اليتم والفقر.
لكنه كان للطفل اليتيم الفقير عم على حظ كبير من وفرة (٧) الغنى، وبسطة العيش …
ولم يكن لعمه هذا ولد يزين حياته … أو عقب يرث أمواله …
فأولع بابن أخيه الصغير، وأنزله من نفسه وماله منزلة الولد من أبيه.
* * *
شب الغلام "المزني" في أحضان جبل "ورقان" المونقة (٨) المورقة؛ فخلع (٩) عليه الجبل النضير رقة من رقته …
وأسبغ (١٠) عليه صفاء من صفائه …
فنشأ مرهف الحس، صافي النفس، نقي الفطرة …
فكان ذلك سببا آخر لأن يزداد عمه ولعا (١١) به، وإيثارا له (١٢).
* * *
وعلى الرغم من أن الفتى "المزني" قد بلغ مبلغ الرجال.
فإنه لم يسمع بالدين الجديد، ولم يصل إلى علمه شيء من أخبار صاحبه محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
وقد استطال ذلك حتى سعدت "يثرب" بيومها المبارك الأغر الذي قدم فيه الرسول الأعظم ﷺ عليها مهاجرا.
فطفق (١٣) الفتى "المزني" يتتبع أخبار الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه ويتسقط (١٤) أحواله؛ حتى إنه كثيرا ما كان يمكث (١٥) سحابة
نهاره (١٦) على جانب الطريق المفضية (١٧) إلى المدينة ليسأل الذاهبين إليها والغادين (١٨) منها سوال الملهوف عن الدين الجديد وأنصاره …
والنبي الكريم ﷺ وأخباره، إلى أن شرح الله صدره الطاهر للإسلام …
وفتح قلبه الغض لأنوار الإيمان.
فشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
وذلك قبل أن تكتحل عيناه بمرأى الرسول صلوات الله وسلامه عليه …
أو تنعم أذناه بسماع حديثه …
فكان أول امرئ يسلم من بني قومه في جبل "ورقان".
* * *
كتم الفتى "المزني" إسلامه عن قومه عامة، وعن عمه خاصة، وجعل يخرج إلى الشعاب النائية (١٩) ليعبد الله ﷿ في أكنافها (٢٠) بعيدا عن أنظار الناس.
وكان يترقب بلهفة وشوق اليوم الذي يسلم فيه عمه ليتمكن من إعلان إسلامه …
وليمضي بصحبته إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه، بعد أن غدا (٢١) الشوق إلى لقاء النبي ﷺ يملك عليه قلبه، ويشغل منه لبه (٢٢).
* * *
ولما وجد الفتى المؤمن أن صبره قد طال …
وأن عمه بعيد عن الإسلام …
وأن المشاهد مع رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، تفوته واحدا بعد آخر، حزم أمره - غير غافل عن عواقب ما أقدم عليه - وأقبل على عمه وقال:
يا عم، لقد انتظرت إسلامك طويلا حتى نفد صبري، فإن كنت ترغب أن تسلم ويكتب الله لك السعادة فنعم ما تصنع، وإن كانت الأخرى؛ فأذن لي بأن أعلن إسلامي بين الناس.
* * *
ما كادت كلمات الفتى تلامس أذني عمه حتى استشاط غضبا وقال:
أقسم باللات والعزى (٢٣) لئن أسلمت لأنزعن من يدك كل شيء كنت أعطيته لك، ولأسلمنك للفاقة (٢٤) …
ولأتركنك فريسة للعوز (٢٥) والجوع.
فلم يحرك هذا التهديد في الغلام المؤمن ساكنا …
ولم يفتت (٢٦) من عزمه شيئا …
فاستعان عمه عليه بقومه … فهبوا يرهبونه ويرغبونه …
وطفقوا يهددونه ويتوعدونه (٢٧) فكان يقول لهم:
افعلوا ما شئتم … فأنا والله متبع محمدا، وتارك عبادة الأحجار.
ومنصرف إلى عبادة الواحد القهار …
وليكن منكم ومن عمي ما يكون …
فما كان من عمه إلا أن جرده من كل ما أعطاه …
وقطع عنه رفده (٢٨)، وحرمه من جدواه (٢٩) …
ولم يترك له غير بجاد (٣٠) يستر به جسده.
* * *
مضى الفتى "المزني" مهاجرا بدينه إلى الله ورسوله، مخلفا وراءه مغاني (٣١) الطفولة ومراتع الصبا (٣٢) …
معرضا عما في يد عمه من الثراء والنعمة …
راغبا فيما عند الله من الأجر والمثوبة.
وجعل يحث الخطى (٣٣) نحو المدينة تحدوه (٣٤) إليها أشواق باتت تفري فؤاده فريا (٣٥).
فلما غدا قريبا من "يثرب" شق بجاده شقين …
فاتزر بأحدهما … وارتدى بالآخر.
ثم مضى إلى مسجد الرسول صلوات الله وسلامه عليه وبات فيه ليلته تلك …
فلما انبلج (٣٦) الفجر وقف قريبا من باب حجرة النبي، وجعل يترقب - في لهفة وشوق - طلعة الرسول الأعظم ﷺ من حجرته.
فما إن وقع بصره عليه حتى تهللت (٣٧) على خديه دموع الفرح وشعر كأن قلبه يريد أن يقفر من بين جنبيه لتحيته والسلام عليه.
* * *
ولما قضيت الصلاة، قام النبي الكريم ﷺ على عادته - يتصفح وجوه الناس فنظر إلى الفتى "المزني"، وقال:
(ممن أنت يا فتى؟).
فانتسب له:
فقال له: (ما اسمك؟).
فقال: عبد العزى.
فقال له: (بل عبد الله).
ثم دنا (٣٨) منه وقال: (انزل قريبا منا، وكن في جملة أضيافنا) …
فصار الناس منذ ذلك اليوم ينادونه عبد الله.
ولقبه الصحابة الكرام "بذي البجادين" بعد أن رأوا بجاديه، ووقفوا على قصته … فعرف في التاريخ أكثر ما عرف بهذا اللقب.
* * *
لا تسل - أيها القارئ الكريم - عن سعادة ذي البجادين حين أصبح يعيش في كنف رسول الله ﷺ فيشهد مجالسه …
ويصلي خلفه …
وينهل (٣٩) من هديه …
ويتملى من شمائله (٤٠) …
* * *
لقد نادته الدنيا فأصم أذنيه عن سماع أصواتها …
وأقبل على الآخرة يطلبها من كل سبيل:
لقد طلبها بالدعاء الذي كان يجأر به في خشية وخشوع …
حتى سماه الصحابة "الأواه" (٤١).
وطلبها بالقرآن …
فكان لا يفتأ يعطر بشذى (٤٢) آياته البينات أرجاء (٤٣) مسجد رسول الله ﷺ …
وطلبها بالجهاد …
فكانت لا تفوته غزوة غراها رسول الله ﷺ.
* * *
وفي غزوة "تبوك"، سأل ذو البجادين الرسول صلوات الله وسلامه عليه أن يدعو له بالشهادة.
فدعا له بأن يعصم دمه من سيوف الكفار.
فقال له: بأبي أنت وأمي (٤٤) يا رسول الله، ما هذا أردت.
فقال له: (إذا خرجت غازيا في سبيل الله فمرضت فمت فأنت شهيد …
وإذا جمحت (٤٥) بك دابتك فسقطت فقتلت فأنت شهيد … ).
* * *
لم يمض على هذا الحديث غير يوم وليلة حتى حم الفتى "المزني" ومات …
لقد مات مهاجرا إلى الله …
مجاهدا في سبيل الله …
بعيدا عن الأهل والعشير …
غريبا عن الوطن والدار …
فعوضه الله عن ذلك كله خير العوض.
فلقد خط له الصحابة الكرام قبره بسواعدهم الطاهرة …
ونزل في قبره الرسول الكريم ﷺ بنفسه …
وسواه له بيديه الشريفتين.
ولقد دلاه إلى القبر الشيخان أبو بكر وعمر حيث قال لهما الرسول صلوات الله وسلامه عليه:
(قربا إلي أخاكما) فأنزلاه إليه.
فتناوله منهما، وأسكنه في لحده …
وكان عبد الله بن مسعود (٤٦) واقفا يشهد ذلك كله.
فقال: "ليتني كنت صاحب هذه الحفرة … والله، وددت لو كنت مكانه وقد أسلمت قبله بخمس عشرة سنة" (*).
_________
(١) نضير الذرى: ناعم وحسن وجميل الذرى.
(٢) وارف الظلال: ممتدة متسعة.
(٣) الشعب: جمعه شعاب، وهي الطرق في الجبال.
(٤) اخترمت: أهلكت واستأصلت.
(٥) لم يدرج: لم يمش.
(٦) تحالف: تعاهد وتصاحب.
(٧) وفرة: سعة وكثرة.
(٨) المونقة: المزهرة النضرة.
(٩) فخلع عليه: ألبسه ومنحه.
(١٠) أسبغ: أطال وأوسع.
(١١) ولعا: حبا شديدا.
(١٢) إيثارا له: تفضيلا له على غيره.
(١٣) طفق: جعل يفعل كذا.
(١٤) يتسقط: يتحسس ويبحث.
(١٥) يمكث: يبقى.
(١٦) سحابة نهاره: طول نهاره.
(١٧) المفضية: الموصلة.
(١٨) الغادين: العائدين أو الذاهبين في الغداة.
(١٩) النائية: البعيدة.
(٢٠) أكنافها: جوانبها.
(٢١) غدا: صار.
(٢٢) لبه: عقله.
(٢٣) اللات والعزى: انظر هدم الأصنام في كتاب "حدث في رمضان" للمؤلف.
(٢٤) الفاقة: الفقر.
(٢٥) العوز: الحاجة.
(٢٦) ولم يفتت: ولم يضعضع منه عزمه أو يضعفه.
(٢٧) يتوعدونه: ينذرونه بالشر.
(٢٨) رفده: معونته وعطاؤه.
(٢٩) جدواه: ما يجود به.
(٣٠) البجاد: الكساء الغليظ.
(٣١) مغاني الطفولة: الديار التي قضي فيها عهد الطفولة.
(٣٢) مراتع الصبا: أماكن اللعب في أيام الصبا.
(٣٣) يحث الخطى: يسرع في خطاه.
(٣٤) تحدوه: تسوقه وتدفعه.
(٣٥) تفري فؤاده فريا: تقطع فؤاده تقطيعا.
(٣٦) انبلج: أشرق وأضاء.
(٣٧) تهللت على خديه: انحدرت.
(٣٨) دنا منه: اقترب منه.
(٣٩) ينهل: يرتوي.
(٤٠) يتملى من شمائله: يتشبع من أخلاقه ومزاياه.
(٤١) الأواه: كثير التأوه خوفا من الله.
(٤٢) الشذى: الرائحة الطيبة.
(٤٣) أرجاء: نواحي.
(٤٤) بأبي أنت وأمي: أي أفديك بأبي وأمي.
(٤٥) جمحت: نفرت الدابة وعصت راكبها.
(٤٦) عبد الله بن مسعود: انظره ص ٩٧.
مختارات