43. ربيعة بن كعب
ربيعة بن كعب
"دأب ربيعة بن كعب في العبادة ليحظى بمرافقة رسول الله ﷺ في الجنة … كما حظي بخدمته وصحبته في الدنيا"
قال ربيعة بن كعب:
كنت فتى حديث السن لما أشرقت نفسي بنور الإيمان، وامتلأ فؤادي بمعاني الإسلام.
ولما اكتحلت عيناي بمرأى رسول الله ﷺ أول مرة؛ أحببته حبا ملك علي كل جارحة من جوارحي (١) …
وأولعت (٢) به ولعا صرفني عن كل ما عداه.
فقلت في نفسي ذات يوم: ويحك (٣) يا ربيعة، لم لا تجرد نفسك: لخدمة رسول الله ﷺ؟! …
اعرض نفسك عليه … فإن رضي بك سعدت بقربه وفزت بحبه، وحظيت بخيري الدنيا والآخرة.
ثم ما لبثت أن عرضت نفسي على رسول الله ﷺ، ورجوته أن يقبلني في خدمته.
فلم يخيب رجائي، ورضي بي أن أكون خادما له.
فصرت منذ ذلك اليوم ألزم للنبي الكريم ﷺ من ظله:
أسير معه أينما سار، وأدور في فلكه كيفما دار.
فما رمى بطرفه (٤) مرة نحوي إلا مثلت (٥) واقفا بين يديه.
وما تشوف (٦) لحاجة من حاجاته إلا وجدني مسرعا في قضائها.
وكنت أخدمه نهاره كله، فإذا انقضى النهار وصلى العشاء الأخيرة وأوى إلى بيته؛ أهم بالانصراف.
لكني ما ألبث أن أقول في نفسي: إلى أين تمضي يا ربيعة؟! …
فلعلها تعرض لرسول الله ﷺ حاجة في الليل.
فأجلس على بابه ولا أتحول عن عتبة بيته.
وقد كان رسول الله ﷺ يقطع ليله قائما يصلي؛ فربما سمعته يقرأ بفاتحة الكتاب (٧)، فما يزال يكررها هزيعا (٨) من الليل، حتى أمل فأتركه، أو تغلبني عيناي فأنام.
وربما سمعته يقول: "سمع الله لمن حمده" فما يزال يرددها زمنا أطول من ترديده لفاتحة الكتاب.
* * *
وقد كان من عادة رسول الله ﷺ أنه ما صنع له أحد معروفا إلا أحب أن يجازيه عليه بما هو أجل منه.
وقد أحب أن يجازيني على خدمتي له، فأقبل علي ذات يوم وقال:
(يا ربيعة بن كعب).
فقلت: لبيك (٩) يا رسول الله وسعديك (١٠).
فقال: (سلني شيئا أعطه لك).
فرويت (١١) قليلا ثم قلت:
أمهلني يا رسول الله لأنظر فيما أطلبه منك، ثم أعلمك.
فقال: (لا بأس عليك).
وكنت يومئذ شابا فقيرا لا أهل لي ولا مال ولا سكن.
وإنما كنت آوي إلى صفة (١٢) المسجد مع أمثالي من فقراء المسلمين.
وكان الناس يدعوننا "بضيوف الإسلام".
فإذا أتى أحد من المسلمين بصدقة إلى رسول الله ﷺ بعث بها كلها إلينا.
وإذا أهدى له أحد هدية أخذ منها شيئا، وجعل باقيها لنا.
فحدثتني نفسي أن أطلب من رسول الله شيئا من خير الدنيا، أغتني به من فقر، وأغدو كالآخرين ذا مال وزوج وولد.
لكني ما لبثت أن قلت: تبا (١٣) لك يا ربيعة بن كعب، إن الدنيا زائلة فانية، وإن لك فيها رزقا كفله الله ﷿، فلا بد أن يأتيك.
والرسول ﷺ في منزلة عند ربه لا يرد له معها طلب.
فاطلب منه أن يسأل الله لك من فضل الآخرة.
فطابت نفسي لذلك، واستراحت له.
ثم جئت إلى رسول الله ﷺ فقال: (ما تقول يا ربيعة؟!).
فقلت: يا رسول الله أسألك أن تدعو لي الله تعالى أن يجعلني رفيقا لك في الجنة.
فقال ﷺ: (من أوصاك بذلك؟).
فقلت: لا والله ما أوصاني به أحد، ولكنك حين قلت لي: سلني
أعطك حدثتني نفسي أن أسألك شيئا من خير الدنيا …
ثم ما لبثت أن هديت إلى إيثار الباقية على الفانية (١٤)، فسألتك أن تدعو الله لي بأن أكون رفيقك في الجنة.
فصمت رسول الله طويلا ثم قال: (أو غير ذلك يا ربيعة؟).
فقلت: كلا يا رسول الله فما أعدل (١٥) بما سألتك شيئا.
فقال: (إذن أعني على نفسك بكثرة السجود).
فجعلت أدأب (١٦) في العبادة لأحظى بمرافقة رسول الله ﷺ في الجنة كما حظيت بخدمته وصحبته في الدنيا.
* * *
ثم إنه لم يمض على ذلك وقت طويل حتى ناداني رسول الله ﷺ وقال: (ألا تتزوج يا ربيعة؟!).
فقلت: ما أحب أن يشغلني شيء عن خدمتك يا رسول الله …
ثم إنه ليس عندي ما أمهر به الزوجة (١٧)، ولا ما أقيم حياتها به، فسكت.
ثم رآني ثانية وقال: (ألا تتزوج يا ربيعة؟!).
فأجبته بمثل ما قلت له في المرة السابقة.
لكني ما إن خلوت إلى نفسي حتى ندمت على ما كان مني، وقلت: ويحك يا ربيعة … والله إن النبي ﷺ لأعلم منك بما يصلح لك في دينك ودنياك، وأعرف منك بما عندك.
والله لئن دعاني رسول الله ﷺ بعد هذه المرة إلى الزواج لأجيبنه.
* * *
لم يمض على ذلك طويل وقت حتى قال لي الرسول ﷺ:
(ألا تتزوج يا ربيعة؟!).
فقلت: بلى يا رسول الله … ولكن من يزوجني، وأنا كما تعلم؟!.
فقال ﷺ: (انطلق إلى آل فلان (١٨) وقل لهم: إن رسول الله يأمركم أن تزوجوني فتاتكم فلانة).
فأتيتهم على استحياء وقلت لهم:
إن رسول الله ﷺ أرسلني إليكم لتزوجوني فتاتكم فلانة.
فقالوا: فلانة؟!.
فقلت: نعم.
فقالوا: مرحبا برسول الله، ومرحبا برسول رسول الله (١٩) …
والله لا يرجع رسول رسول الله إلا بحاجته … وعقدوا لي عليها.
فأتيت النبي صلوات الله وسلامه عليه وقلت: يا رسول الله، لقد جئت من عند خير بيت … صدقوني، ورحبوا بي، وعقدوا لي على ابنتهم.
فمن أين آتيهم بالمهر؟!.
فاستدعى الرسول ﷺ بريدة بن الحصيب - وكان سيدا من سادات قومي [بني أسلم]- وقال له:
(يا بريدة، اجمعوا لربيعة وزن نواة ذهبا) … فجمعها لي.
فقال لي الرسول ﷺ: (اذهب بهذا إليهم، وقل لهم: هذا صداق (٢٠) ابنتكم)، فأتيتهم، ودفعته إليهم فقبلوه، ورضوه، وقالوا: كثير طيب …
فأتيت رسول الله ﷺ، وقلت: ما رأيت قوما قط أكرم منهم؛ فلقد رضوا ما أعطيتهم - على قلته - وقالوا: كثير طيب.
فمن أين لي ما أولم به (٢١) يا رسول الله؟!.
فقال الرسول ﷺ لبريدة: (اجمعوا لربيعة ثمن كبش)، فابتاعوا لي كبشا عظيما سمينا.
فقال لي الرسول ﷺ: (اذهب إلى عائشة، وقل لها أن تدفع لك ما عندها من الشعير)، فأتيتها فقالت: إليك (٢٢) المكتل (٢٣) ففيه سبع آصع (٢٤) شعير، لا والله ما عندنا طعام غيره.
فانطلقت بالكبش والشعير إلى أهل زوجتي فقالوا:
أما الشعير فنحن نعده.
وأما الكبش فمر أصحابك أن يعدوه لك.
فأخذت الكبش - أنا وناس من "أسلم" - فذبحناه وسلخناه وطبخناه، فأصبح عندنا خبز ولحم.
فأولمت ودعوت رسول الله ﷺ، فأجاب دعوتي.
* * *
ثم إن رسول الله ﷺ منحني أرضا إلى جانب أرض لأبي بكر، فدخلت علي الدنيا، حتى إني اختلفت مع أبي بكر على نخلة فقلت:
هي في أرضي.
فقال: بل هي في أرضي.
فنازعته، فأسمعني كلمة كرهتها.
فلما بدرت (٢٥) منه الكلمة؛ ندم عليها وقال:
يا ربيعة رد علي مثلها حتى يكون قصاصا (٢٦).
فقلت: لا والله لا أفعل.
فقال: إذن آتي رسول الله ﷺ وأشكو إليه امتناعك عن الاقتصاص مني …
وانطلق إلى النبي ﷺ فمضيت في إثره (٢٧).
فتبعني قومي بنو "أسلم" وقالوا:
هو الذي بدأ بك فشتمك، ثم يسبقك إلى رسول الله ﷺ فيشكوك؟!!.
فالتفت إليهم وقلت: ويحكم أتدرون من هذا؟! …
هذا الصديق …
وذو شيبة المسلمين (٢٨) …
ارجعوا قبل أن يلتفت فيراكم، فيظن أنكم إنما جئتم لتعينوني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله فيغضب النبي ﷺ لغضبه، فيغضب الله لغضبهما فيهلك ربيعة؛ فرجعوا.
ثم أتى أبو بكر النبي ﷺ، وحدثه الحديث كما كان، فرفع الرسول ﷺ رأسه إلي وقال:
(يا ربيعة ما لك وللصديق؟!).
فقلت: يا رسول الله أراد مني أن أقول له كما قال لي، فلم أفعل.
فقال ﷺ: (نعم لا تقل له كما قال لك …
ولكن قل: غفر الله لأبي بكر).
فقلت له: غفر الله لك يا أبا بكر.
فمضى وعيناه تفيضان من الدمع، وهو يقول:
جزاك الله عني خيرا يا ربيعة بن كعب …
جزاك الله عني خيرا يا ربيعة بن كعب … (*).
_________
(١) الجوارح: الأعضاء.
(٢) أولعت به: شغفت به حبا وتعلقت به.
(٣) ويحك: كلمة ترحم.
(٤) رمى بطرفه: نظر بطرف عينيه.
(٥) مثلت واقفا: بادرت واقفا.
(٦) تشوف لحاجة: تطلع لحاجة.
(٧) فاتحة الكتاب: سورة الحمد.
(٨) الهزيع من الليل: الشطر من الليل، ثلثه أو نصفه أو جزء منه.
(٩) لبيك: سمعا وإجابة لك.
(١٠) سعديك: أسعدك الله إسعادا بعد إسعاد.
(١١) رويت قليلا: فكرت قليلا.
(١٢) الصفة: مكان في مسجد رسول الله ﷺ كان يأوي إليه الفقراء الذين لا بيوت لهم، وكانوا يدعون أهل الصفة.
(١٣) تبا لك: التب الهلاك والبوار.
(١٤) إيثار الباقية على الفانية: تفضيل الآخرة على الدنيا.
(١٥) ما أعدل: ما أساوي.
(١٦) أدأب في العبادة: اجتهد في العبادة.
(١٧) أمهر به الزوجة: أعطيه مهرا لها.
(١٨) فلان: كناية عن شخص معين.
(١٩) رسول رسول الله: من أرسله إلينا رسول الله.
(٢٠) صداق ابنتكم: مهر ابنتكم.
(٢١) أولم به: أنفق منه على وليمة العرس.
(٢٢) إليك: خذ.
(٢٣) المكتل: زنبيل من خوص.
(٢٤) آصع: جمع صاع وهو مكيال تكال به الحبوب.
(٢٥) بدرت: ظهرت.
(٢٦) قصاصا: عقوبة لي.
(٢٧) مضيت في إثره: تبعته.
(٢٨) ذو شيبة المسلمين: صاحب شيبة المسلمين وشيخهم.
مختارات