17. أبو ذر الغفاري
أبو ذر الغفاري
جندب بن جنادة
"ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق من أبي ذر"
[محمد رسول الله]
في وادي "ودان" الذي يصل مكة بالعالم الخارجي كانت تنزل قبيلة "غفار".
وكانت "غفار" تعيش من ذلك النزر اليسير (١) الذي تبذله لها القوافل التي تسعى بتجارة قريش ذاهبة إلى بلاد الشام أو آيبة (٢) منها.
وربما عاشت من قطع الطريق على هذه القوافل إذا هي لم تعطها ما يرضيها.
وكان "جندب بن جنادة" المكنى بأبي ذر واحدا من أبناء هذه القبيلة، لكنه كان يمتاز منهم بجرأة القلب، ورجاحة العقل، وبعد النظر …
وبأنه كان يضيق أشد الضيق بهذه الأوثان التي يعبدها قومه من دون الله.
ويستنكر ما وجد عليه العرب من فساد الدين، وتفاهة المعتقد.
ويتطلع إلى ظهور نبي جديد يملأ على الناس عقولهم وأفئدتهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور.
* * *
ثم تناهت (٣) إلى أبي ذر - وهو في باديته - أخبار النبي الجديد الذي ظهر في مكة، فقال لأخيه "أنيس":
انطلق - لا أبا لك (٤) - إلى مكة، وقف على أخبار هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، وأنه يأتيه وحي من السماء، واسمع شيئا من قوله واحمله إلي.
* * *
ذهب "أنيس" إلى مكة، والتقى بالرسول صلوات الله عليه وسلامه، وسمع منه، ثم عاد إلى البادية فتلقاه أبو ذر في لهفة، وسأله عن أخبار النبي الجديد في شغف (٥).
فقال: لقد رأيت - والله - رجلا يدعو إلى مكارم الأخلاق، ويقول كلاما ما هو بالشعر.
فقال له: وماذا يقول الناس فيه؟.
فقال: يقولون: إنه ساحر، وكاهن، وشاعر.
فقال أبو ذر: والله ما شفيت لي غليلا (٦)، ولا قضيت لي حاجة، فهل أنت كاف عيالي حتى أنطلق فأنظر في أمره؟.
فقال: نعم … ولكن كن من أهل مكة على حذر.
* * *
تزود أبو ذر لنفسه، وحمل معه قربة ماء صغيرة، واتجه من غده إلى مكة يريد لقاء النبي ﷺ، والوقوف على خبره بنفسه.
* * *
بلغ أبو ذر مكة وهو متوجس (٧) خيفة من أهلها، فقد تناهت إليه أخبار غضبة قريش لآلهتهم، وتنكيلهم (٨) بكل من تحدثه نفسه باتباع محمد.
لذا كره أن يسأل أحدا عن محمد، لأنه ما كان يدري أيكون هذا المسؤول من شيعته (٩) أم من عدوه؟.
* * *
ولما أقبل الليل اضطجع في المسجد، فمر به علي بن أبي طالب ﵁، فعرف أنه غريب فقال:
هلم (١٠) إلينا أيها الرجل، فمضى معه وبات ليلته عنده، وفي الصباح حمل قربته ومروده (١١) وعاد إلى المسجد دون أن يسأل أحد منهما صاحبه عن شيء.
ثم قضى أبو ذر يومه الثاني دون أن يتعرف إلى النبي ﷺ، فلما أمسى أخذ مضجعه من المسجد، فمر به علي ﵁ فقال له:
أما آن للرجل أن يعرف منزله؟!.
ثم اصطحبه معه فبات عنده ليلته الثانية، ولم يسأل أحد منهما صاحبه عن شيء.
فلما كانت الليلة الثالثة قال علي لصاحبه: ألا تحدثني عما أقدمك إلى مكة؟.
فقال أبو ذر: إن أعطيتني ميثاقا (١٢) أن ترشدني إلى ما أطلب فعلت.
فأعطاه علي ما أراد من ميثاق.
فقال أبو ذر: لقد قصدت مكة من أماكن بعيدة أبتغي لقاء النبي الجديد وسماع شيء مما يقوله.
فانفرجت أسارير (١٣) علي ﵁، وقال:
والله إنه لرسول الله حقا، وإنه … وإنه …
فإذا أصبحنا فاتبعني حيثما سرت، فإن رأيت شيئا أخافه عليك وقفت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني حتى تدخل مدخلي.
* * *
لم يقر لأبي ذر مضجع طوال ليلته شوقا إلى رؤية النبي ﷺ، ولهفة إلى استماع شيء مما يوحى به إليه.
وفي الصباح مضى علي بضيفه إلى بيت الرسول الكريم ﷺ ومضى أبو ذر وراءه يقفوه (١٤) وهو لا يلوي (١٥) على شيء؛ حتى دخلا على النبي ﷺ، فقال أبو ذر: السلام عليك يا رسول الله.
فقال الرسول: (وعليك سلام الله ورحمته وبركاته).
فكان أبو ذر أول من حيا الرسول ﷺ بتحية الإسلام، ثم شاعت وعمت بعد ذلك.
* * *
أقبل الرسول صلوات الله عليه على أبي ذر يدعوه إلى الإسلام، ويقرأ عليه القرآن، فما لبث أن أعلن كلمة الحق، ودخل في الدين الجديد قبل أن يبرح مكانه، فكان رابع ثلاثة أسلموا أو خامس أربعة.
ولنترك الكلام لأبي ذر ليقص علينا بنفسه بقية خبره، قال:
أقمت بعد ذلك مع رسول الله ﷺ في مكة فعلمني الإسلام، وأقرأني شيئا من القرآن، ثم قال لي:
(لا تخبر بإسلامك أحدا في مكة، فإني أخاف عليك أن يقتلوك).
فقلت: والذي نفسي بيده لا أبرح مكة حتى آتي المسجد وأصرخ بدعوة الحق بين ظهراني (١٦) قريش؛ فسكت الرسول ﷺ …
فجئت المسجد وقريش جلوس يتحدثون، فتوسطتهم، وناديت بأعلى صوتي: يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
فما كادت كلماتي تلامس آذان القوم حتى ذعروا جميعا، وهبوا من مجالسهم، وقالوا:
عليكم بهذا الصابئ (١٧) … وقاموا إلي وجعلوا يضربونني لأموت، فأدركني العباس بن عبد المطلب عم النبي ﷺ، وأكب علي ليحميني منهم، ثم أقبل عليهم وقال: ويلكم (١٨)!! … أتقتلون رجلا من "غفار"؛ وممر قوافلكم عليهم؟! … فأقلعوا (١٩) عني.
ولما أفقت جئت إلى رسول الله ﷺ فلما رأى ما بي قال:
(ألم أنهك عن إعلان إسلامك؟).
فقلت: يا رسول الله، كانت حاجة في نفسي فقضيتها.
فقال: (الحق بقومك، وخبرهم بما رأيت وما سمعت، وادعهم إلى
الله، لعل الله ينفعهم بك ويؤجرك فيهم … فإذا بلغك أني ظهرت فتعال إلي).
قال أبو ذر:
فانطلقت حتى أتيت منازل قومي فلقيني أخي أنيس فقال:
ما صنعت؟.
قلت: صنعت أني أسلمت، وصدقت …
فما لبث (٢٠) أن شرح الله صدره وقال:
ما لي رغبة عن دينك، فإني قد أسلمت وصدقت أيضا.
ثم أتينا أمنا فدعوناها إلى الإسلام فقالت:
ما لي رغبة عن دينكما، وأسلمت أيضا.
ومنذ ذلك اليوم انطلقت الأسرة المؤمنة تدعو إلى في "غفار" لا تكل عن ذلك ولا تمل منه، حتى أسلم من "غفار" خلق كثير وأقيمت الصلاة فيهم.
وقال فريق منهم: نبقى على ديننا حتى إذا قدم الرسول المدينة أسلمنا، فلما قدم الرسول ﷺ المدينة أسلموا، فقال:
(غفار غفر الله لها، وأسلم سالمها الله).
* * *
أقام أبو ذر في باديته حتى مضت "بدر"، و أحد"، و "الخندق" … ثم قدم على المدينة وانقطع (٢١) إلى رسول الله ﷺ واستأذنه في أن يقوم على خدمته؛ فأذن له ونعم بصحبته وسعد بخدمته.
وظل رسول الله صلوات الله عليه يؤثره (٢٢) ويكرمه، فما لقيه مرة إلا صافحه، وهش في وجهه وبش (٢٣).
* * *
ولما لحق الرسول الكريم ﷺ بالرفيق الأعلى (٢٤)؛ لم يطق أبو ذر صبرا على الإقامة في المدينة المنورة بعد أن خلت من سيدها وأقفرت من هدي مجالسه، فرحل إلى بادية الشام وأقام فيها مدة خلافة الصديق والفاروق ﵄ وعنه.
* * *
وفي خلافة عثمان (٢٥) نزل في "دمشق" فرأى من إقبال المسلمين على الدنيا وانغماسهم في الترف (٢٦) ما أذهله ودفعه إلى استنكار (٢٧) ذلك؛ فاستدعاه عثمان بن عفان إلى المدينة، فقدم إليها، لكنه ما لبث أن ضاق برغبة الناس في الدنيا وضاق الناس بشدته عليهم وتنديده (٢٨) بهم، فأمره عثمان بالانتقال إلى "الربذة" وهي قرية صغيرة من قرى المدينة، فرحل إليها وأقام فيها بعيدا عن الناس، زاهدا بما في أيديهم من عرض الدنيا، مستمسكا بما كان عليه الرسول ﷺ وصاحباه من إيثار الباقية على الفانية (٢٩).
* * *
دخل عليه رجل ذات مرة فجعل يقلب الطرف في بيته، فلم يجد فيه متاعا.
فقال: يا أبا ذر، أين متاعكم؟!.
فقال: لنا بيت هناك [يعني الآخرة] نرسل إليه صالح متاعنا.
ففهم الرجل مراده وقال له:
ولكن لا بد لك من متاع ما دمت في هذه الدار [يعني الدنيا] …
فأجاب: ولكن صاحب المنزل لا يتركنا فيه.
* * *
وبعث إليه أمير الشام بثلاثمائة دينار، وقال له:
استعن بها على قضاء حاجتك، فردها إليه، وقال:
أما وجد أمير الشام عبدا لله أهون (٣٠) عليه مني؟ …
* * *
وفي السنة الثانية والثلاثين للهجرة استأثرت يد المنون بالعابد الراهد الذي قال فيه الرسول:
(ما أقلت الغبراء (٣١) ولا أظلت الخضراء (٣٢) من رجل أصدق من أبي ذر) (*).
_________
(١) النزر اليسير: الشيء القليل.
(٢) آيبة منها: راجعة منها.
(٣) تناهت إليه الأخبار: بلغته.
(٤) لا أبا لك: كلمة تقال في المدح والذم، والمراد بها هنا المدح.
(٥) في شغف: في شوق.
(٦) الغليل: العطش.
(٧) متوجس خيفة: مستشعر بالخوف متحمس به.
(٨) تنكيلهم: بطشهم.
(٩) من شيعته: من أنصاره.
(١٠) هلم إلينا: تعال عندنا.
(١١) المزود: كيس يوضع فيه الطعام.
(١٢) الميثاق: العهد الواجب الوفاء.
(١٣) انفرجت أسارير علي: بدا السرور على وجهه.
(١٤) يققوه: يتبعه ويمشي على أثره.
(١٥) لا يلوي على شيء: لا يلتفت إلى شيء.
(١٦) بين ظهراني قريش: في وسط قريش.
(١٧) الصابئ: الخارج من دينه.
(١٨) الويل: الهلاك.
(١٩) أقلعوا عنى: كفوا عني وتركوني.
(٢٠) ما لبث: ما أبطأ.
(٢١) انقطع إلى رسول الله: خصص نفسه لصحبته.
(٢٢) يؤثره: يفضله على غيره.
(٢٣) هش في وجهه وبش: ابتسم له وأظهر السرور للقائه.
(٢٤) لحق بالرفيق الأعلى: وافاه الأجل.
(٢٥) عثمان بن عفان: انظره ص ٥٣٥.
(٢٦) انغماسهم في الترف: شدة رغبتهم بالنعيم.
(٢٧) استنكاره: استغرابه وعدم إقراره.
(٢٨) تنديده بهم: إشهاره لعيوبهم، وإسماعهم قارس الكلام.
(٢٩) الباقية: هي الآخرة، والفانية: هي الدنيا.
(٣٠) أهون عليه مني: أذل عنده مني.
(٣١) أقلت الغبراء: حملت الأرض.
(٣٢) الخضراء: السماء.
مختارات