18. عبد الله بن أم مكتوم
عبد الله بن أم مكتوم
"رجل أعمى أنزل الله في شأنه ست عشرة آية تليت وستظل تتلى ما كر الجديدان"
[المفسرون]
من هذا الذي عوتب فيه النبي الكريم ﷺ من فوق سبع سماوات أقسى عتاب وأوجعه؟! …
من هذا الذي نزل بشأنه جبريل الأمين على قلب النبي الكريم ﷺ بوحي من عند الله؟! …
إنه عبد الله بن أم مكتوم مؤذن الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
* * *
وعبد الله بن أم مكتوم مكي قرشي تربطه بالرسول رحم، فقد كان ابن خال أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضوان الله عليها.
أما أبوه فقيس بن زائدة، وأما أمه فعاتكة بنت عبد الله، وقد دعيت بأم مكتوم لأنها ولدته أعمى مكتوما.
* * *
شهد عبد الله بن أم مكتوم مطلع النور في مكة، فشرح الله صدره للإيمان، وكان من السابقين إلى الإسلام.
عاش ابن أم مكتوم محنة المسلمين في مكة بكل ما حفلت به من تضحية وثبات وصمود وفداء …
وعانى من أذى قريش ما عاناه أصحابه، وبلا (١) من بطشهم وقسوتهم
ما بلوه؛ فما لانت له قناة (٢) ولا فترت له حماسة، ولا ضعف له إيمان …
وإنما زاده ذلك استمساكا بدين الله، وتعلقا بكتاب الله، وتفقها بشرع الله، وإقبالا على الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
* * *
وقد بلغ من إقباله على النبي الكريم ﷺ وحرصه على حفظ القرآن العظيم أنه كان لا يترك فرصة إلا اغتنمها، ولا سانحة إلا ابتدرها (٣) …
بل كان إلحاحه على ذلك يغريه - أحيانا - بأن يأخذ نصيبه من الرسول ﷺ ونصيب غيره …
وقد كان الرسول صلوات الله عليه في هذه الفترة كثير التصدي لسادات قريش، شديد الحرص على إسلامهم، فالتقى ذات يوم بعتبة بن ربيعة، وأخيه شيبة بن ربيعة، وعمرو بن هشام المكنى بأبي جهل، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة (٤) والد سيف الله خالد، وطفق يفاوضهم ويناجيهم ويعرض عليهم الإسلام، وهو يطمع في أن يستجيبوا له، أو يكفوا أذاهم عن أصحابه.
* * *
وفيما هو كذلك أقبل عليه عبد الله بن أم مكتوم يستقرئه آية من كتاب الله، ويقول: يا رسول الله، علمني مما علمك الله.
فأعرض الرسول الكريم ﷺ عنه، وعبس في وجهه، وتولى نحو أولئك النفر من قريش، وأقبل عليهم أملا في أن يسلموا فيكون في إسلامهم عز لدين الله، وتأييد لدعوة رسوله.
وما إن قضى رسول الله صلوات الله عليه حديثه معهم وفرغ من نجواهم، وهم أن ينقلب (٥) إلى أهله حتى أمسك الله عليه بعضا من بصره،
وأحس كأن شيئا يخفق (٦) برأسه … ثم أنزل عليه قوله: ﴿عبس وتولى (١) أن جاءه الأعمى (٢) وما يدريك لعله يزكى (٣) أو يذكر فتنفعه الذكرى (٤) أما من استغنى (٥) فأنت له تصدى (٦) وما عليك ألا يزكى (٧) وأما من جاءك يسعى (٨) وهو يخشى (٩) فأنت عنه تلهى (١٠) كلا إنها تذكرة (١١) فمن شاء ذكره (١٢) في صحف مكرمة (١٣) مرفوعة مطهرة (١٤) بأيدي سفرة (١٥) كرام بررة (١٦)﴾ (٧).
ست عشرة آية نزل بها جبريل الأمين على قلب النبي الكريم ﷺ في شأن عبد الله بن أم مكتوم؛ لا تزال تتلى منذ نزلت إلى اليوم، وستظل تتلى حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
* * *
ومنذ ذلك اليوم ما فتئ الرسول صلوات الله عليه يكرم منزل عبد الله بن أم مكتوم إذا نزل، ويدني مجلسه إذا أقبل، ويسأله عن شأنه، ويقضي حاجته.
ولا غرو (٨)، أليس هو الذي عوتب فيه من فوق سبع سماوات أشد عتاب وأعنفه؟!.
* * *
ولما كلبت (٩) قريش على الرسول ﷺ والذين آمنوا معه، واشتد أذاها لهم أذن الله للمسلمين بالهجرة، فكان عبد الله بن أم مكتوم أسرع القوم مفارقة لوطنه، وفرارا بدينه … فقد كان هو ومصعب بن عمير (١٠) أول من قدم المدينة من أصحاب رسول الله ﷺ.
وما إن بلغ عبد الله بن أم مكتوم "يثرب" حتى طفق هو وصاحبه مصعب بن عمير يختلفان (١١) إلى الناس ويقرآنهم القرآن، ويفقهانهم في دين الله.
* * *
ولما قدم الرسول إلى المدينة اتخذ عبد الله بن أم مكتوم، وبلال بن رباح (١٢) مؤذنين للمسلمين يصدعان (١٣) بكلمة التوحيد كل يوم خمس مرات، ويدعوان الناس إلى خير العمل، ويحضانهم على الفلاح …
فكان بلال يؤذن؛ وابن أم مكتوم يقيم الصلاة، وربما أذن ابن أم مكتوم وأقام بلال …
وكان لبلال وابن أم مكتوم شأن آخر في رمضان، فقد كان المسلمون في المدينة يتسحرون على أذان أحدهما ويمسكون عند أذان الآخر …
كان بلال يؤذن بليل ويوقظ الناس، وكان ابن أم مكتوم يتوخى (١٤) الفجر فلا يخطئه.
وقد بلغ من إكرام النبي لابن أم مكتوم أن استخلفه على المدينة عند غيابه عنها بضع عشرة مرة كانت إحداها يوم غادرها لفتح مكة.
* * *
وفي أعقاب غزوة" بدر" أنزل الله على نبيه من آي القرآن ما يرفع شأن المجاهدين، ويفضلهم على القاعدين لينشط المجاهد إلى الجهاد، ويأنف القاعد من القعود؛ فأثر ذلك في نفس ابن أم مكتوم، وعز عليه أن يحرم من هذا الفضل وقال: يا رسول الله، لو أستطيع الجهاد لجاهدت … ثم سأل الله بقلب خاشع أن ينزل قرآنا في شأنه وشأن أمثاله ممن تعوقهم عاهاتهم عن الجهاد، وجعل يدعو في ضراعة: "اللهم أنزل عذري … اللهم أنزل عذري" …
فما أسرع أن استجاب الله جل وعز لدعائه.
* * *
حدث زيد بن ثابت (١٥) كاتب وحي رسول الله ﷺ، قال:
كنت إلى جنب الرسول صلوات الله عليه، فغشيته (١٦) السكينة، فوقعت فخذه على فخذي؛ فما وجدت شيئا أثقل من فخذ رسول الله ﷺ، ثم سري (١٧) عنه فقال: (اكتب يا زيد) … فكتبت: ﴿لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله … ﴾.
فقام ابن أم مكتوم وقال: يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد؟! … فما انقضى كلامه حتى غشيت رسول الله ﷺ السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، فوجدت من ثقلها ما وجدته في المرة الأولى، ثم سري عنه، فقال: (اقرأ ما كتبته يا زيد).
فقرأت: ﴿لا يستوي القاعدون من المؤمنين﴾ …
فقال: اكتب ﴿غير أولي الضرر﴾ (١٨).
فنزل الاستثناء الذي تمناه ابن أم مكتوم …
وعلى الرغم من أن الله سبحانه أعفى عبد الله بن أم مكتوم وأمثاله من الجهاد، فقد أبت نفسه الطموح أن يقعد مع القاعدين، وعقد العزم على الجهاد في سبيل الله … ذلك لأن النفوس الكبيرة لا تقنع إلا بكبار الأمور.
فحرص منذ ذلك اليوم على ألا تفوته غزوة، وحدد لنفسه وظيفتها في ساحات القتال، فكان يقول: أقيموني (١٩) بين الصفين، وحملوني الواء أحمله لكم وأحفظه … فأنا أعمى لا أستطيع الفرار …
* * *
وفي السنة الرابعة عشرة للهجرة عقد عمر بن الخطاب العزم على أن يخوض مع "الفرس" معركة فاصلة تديل (٢٠) دولتهم، وتزيل ملكهم، وتفتح الطريق أمام جيوش المسلمين؛ فكتب إلى عماله يقول:
لا تدعوا أحدا له سلاح، أو فرس، أو نجدة، أو رأي؛ إلا انتخبتموه ثم وجهتموه إلي، والعجل العجل.
وطفقت جموع المسلمين تلبي نداء الفاروق، وتنهال على المدينة من كل حدب وصوب (٢١)، وكان في جملة هؤلاء المجاهد المكفوف البصر عبد الله بن أم مكتوم.
فأمر الفاروق على الجيش الكبير سعد بن أبي وقاص (٢٢)، وأوصاه وودعه … ولما بلغ الجيش "القادسية"، برز عبد الله بن أم مكتوم لابسا درعه، مستكملا عدته، وندب نفسه لحمل راية المسلمين والحفاظ عليها، أو الموت دونها.
* * *
والتقى الجمعان في أيام ثلاثة قاسية عابسة … واحترب الفريقان حربا لم يشهد لها تاريخ الفتوح مثيلا حتى انجلى اليوم الثالث عن نصر مؤزر (٢٣) للمسلمين، فدالت دولة من أعظم الدول …
وزال عرش من أعرق عروش الدنيا …
ورفعت راية التوحيد في أرض الوثنية.
وكان ثمن هذا النصر المبين مئات الشهداء …
وكان بين هؤلاء الشهداء عبد الله بن أم مكتوم …
فقد وجد صريعا مضرجا بدمائه وهو يعانق راية المسلمين (*).
_________
(١) بلا من بطشهم: ذاق وقاسى.
(٢) ما لانت له قناة: أي ما ضعف ولا تزعزع.
(٣) ابتدرها: أسرع إليها.
(٤) جميعهم قتلوا في بدر عدا الوليد بن المغيرة مات بعد الهجرة بثلاثة أشهر.
(٥) ينقلب إلى أهله: يعود إلى أهله.
(٦) يخفق برأسه: يضرب رأسه.
(٧) سورة عبس: من الآية ١ - ١٦.
(٨) لا غرو: لا عجب.
(٩) كلبت قريش على المسلمين: اشتدت عليهم وألحت في أذاهم.
(١٠) مصعب بن عمير: أحد السابقين إلى الإسلام، وأول المبشرين به خارج مكة، استشهد يوم أحد.
(١١) يختلفان إلى الناس: يترددان على الناس.
(١٢) بلال بن رباح: انظره ص ٣٠٣.
(١٣) يصدعان: يجهران.
(١٤) يتوخى الفجر: يترقب الفجر ويتطلبه.
(١٥) زيد بن ثابت: انظره ص ٣٥١.
(١٦) غشيته السكينة: غطته وحلت به.
(١٧) سري عنه: كشف عنه ما نزل به من شدة الوحي وثقله.
(١٨) ﴿لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله﴾ سورة النساء: آية ٩٥.
(١٩) أقيموني بين الصفين: أوقفوني بينهما.
(٢٠) تديل دولتهم: تقلب دولتهم.
(٢١) من كل حدب وصوب: من كل ناحية.
(٢٢) سعد بن أبي وقاص: انظره وقاص: انظره ص ٢٨١.
(٢٣) نصر مؤزر: نصر قوي.
مختارات