فقه حقيقة العبودية (١٢)
ومن آيات الله العجيبة أنك لا تجد داعياً من دعاة الكفر والضلال إلا وله من المقت بين العالمين، واللعنة والبغض، والذم والكره ما هو حقيق به، وكل بحسب أحواله وأعماله وفجوره.
كما أن كل داع من دعاة الحق والهدى له من الإجلال والإكرام والاحترام والمحبة والمودة ما هو جدير به، وكل بحسب علمه وجهده وصلاحه وتقواه كما قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (٩٦)} [مريم: ٩٦].
ومن الناس من هو ضعيف الإيمان لم يدخل الإيمان في قلبه، ولم تخالطه بشاشته، بل دخل فيه إما خوفاً وإما عادة، على وجه لا يثبت عند المحن كما قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (١١)} [الحج: ١١].
فهذا إن استمر رزقه رغداً، ولم يحصل له من المكاره شيء، اطمأن بذلك الخير لا بإيمانه، فهذا ربما أن الله يعافيه، وإن أصابته فتنة من حصول مكروه أو زوال محبوب ارتد على وجهه وترك دينه فخسر الدنيا، فلم يحصل له ما أمله بالردة وخاب سعيه، وخسر الآخرة فحرم الجنة وأدخل النار.
إن العقيدة هي الركيزة الثابتة في حياة المؤمن، تضطرب الدنيا من حوله فيثبت هو عليها، فهي الحمى الذي يلجأ إليه، والسند الذي يستند إليه، يأوي إليها ويطمئن بها فهو موصول بالله دائماً.
أما من يجعل العقيدة صفقة في سوق التجارة، إن أصابه خير اطمأن به، وقال: إن الإيمان كله خير، فها هو يجلب النفع، ويدر الضرع، وينمي الزرع، ويربح التجارة.
وإن اصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا بالبلاء الذي أصابه فلم يصبر عليه، ولم يتماسك له، ولم يرجع إلى الله فيه.
وخسر الآخرة بردته وانقلابه على وجهه، وانكفائه عن عقيدته، وانتكاسه عن الهدى الذي كان ميسراً له.
والمؤمن يعبد ربه شكراً له على هدايته له، وعلى اطمئنانه للقرب منه، والأنس به، ولمعرفته بجلاله وجماله وكماله يتوجه إليه بالعبادة وحده دون سواه.
فإن كان هناك جزاء من الرب لعبده فهو فضل من الله ومنة، لا استحقاقاً على الإيمان والعبادة، فإن الإنسان كغيره عبد لله، والعبد مملوك لسيده، ومنعم عليه بجزيل النعم، وماذا عساه أن يؤدي شكر نعمة من النعم التي لا تحصى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤)} [ابراهيم: ٣٤].
والمؤمن لا يجرب إلهه فهو قابل ابتداء لكل ما يقدره له، مستسلم ابتداء لكل ما يجريه عليه، راض ابتداء بكل ما يناله من السراء والضراء، وليست هي صفقة في السوق بين بائع وشار، إنما هي إسلام المخلوق للخالق، وهناك السعادة والسلامة: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢)} [البقرة: ١١٢].
والذي ينقلب على وجهه عند مس الفتنة يخسر الخسارة التي لا شبهة فيها ولا ريب، يخسر الطمأنينة والثقة والهدوء والرضى، إلى جوار خسارة المال أو الولد أو الصحة أو غيرها مما يفتن الله بها عباده، ويبتلي بها ثقتهم فيه، وصبرهم على بلائه، وإخلاصهم أنفسهم له، واستعدادهم لقبول قضائه وقدره.
ويخسر الآخرة وما فيها من نعيم وقربى ورضوان، فيا له من خسران، بل ذلك هو الخسران المبين.
فما أضل من يرتد على وجهه عند حصول الفتن، حيث أعرض عن ربه الذي بيده كل شيء، النفع والضر، والعطاء والمنع، وأقبل على مخلوق مثله أو دونه، ليس بيده من الأمر شيء، بل هو إلى حصول ضد مقصوده أقرب فما أضله.
وما أخسره.
وما أشد حسرته: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣)} [الحج: ١٢، ١٣].
إنه لا سبيل إلى احتمال البلاء إلا بالرجاء في نصر الله، ولا سبيل إلى الفرج إلا بالتوجه إلى الله، ولا سبيل إلى الاستعلاء على الضر إلا بالاستعانة بالله.
فمن مسه الضر في فتنة من الفتن، وفي ابتلاء من الابتلاءات، فليثبت وليستبق ثقته برحمة الله وعونه، وقدرته على كشف الضراء، وعلى العوض والجزاء.
وأما من يفقد ثقته في نصر الله في الدنيا والآخرة، ويقنط من عون الله له في المحنة حين تشتد المحنة، فدونه فليفعل بنفسه ما يشاء، وليذهب بنفسه كل مذهب، فما شيء من ذلك بمبدل ما به من البلاء: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (١٥)} [الحج: ١٥].
وإذا كان كثير من الناس ضالين عاصين، مستكبرين عن طاعة ربهم، مخالفين لأمره، غافلين عن آيات ربهم، فإن هذا الكون العظيم الهائل ما عداهم يتجه بفطرته إلى خالقه، خاضعاً لربه، ساجداً لوجهه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (١٨)} [الحج: ١٨].
وإذا تدبر الإنسان وتفكر.
فإذا حشد عظيم من الخلائق في السماوات والأرض، مما يدرك الإنسان ومما لا يدرك، وإذا حشد من الأفلاك والأجرام مما يعلم الإنسان ومما لا يعلم، وإذا حشد كذلك من الجبال والأشجار والدواب في هذه الأرض التي يعيش عليها الإنسان، إذا بتلك الحشود منالخلائق كلها في موكب خاشع تسجد كلها لله وتتجه إليه وحده دون سواه إلا ذلك الإنسان، فهو وحده الذي افترق ما بين مؤمن وكافر، وشاكر وجاحد للحق: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (٥٥)} [النساء: ٥٥].
وإذا استقر الإيمان في قلب الإنسان حرك جوارحه للعمل والطاعة، وكلما قوي الإيمان قويت العبادات، وزادت الطاعات.
مختارات