أيام الصحوة...الحلقة (5)
قدري هنــا أحيــا..
قدري هنا أحيا.. وعين الشرّ ترقب من سنين
وقوافل الشهداء تحيي ذلك الماضي الدفين
والحق أقوى من ضجيج البغي والمتكبريـــــــــــن
وجهادنا يمضي على رغم الطغاة الحاقديــــــــــن
لهذه الكلمات بحنجرة أبي الزبير _رحمه الله_ شعور مختلف جدّاً..
إذا سمعتُه يصدح بها.. شعرت بتصدّع ينال أعمق نقطة في قلبي.. وبعدها مباشرة تهرق الدموع..
لن أتحدّث هنا عن " قوافل الشهداء " وعن أبي الزبير.. وقد يأتي الحديث عنهما.. ولكنّي سأتحدث الآن عن ذلك الركن العظيم الذي جعلته الصحوة هاجساً.. وجعلت الجميع يتغنّى به ويتحدّث عنه.. وجعلته همّاً واهتماماً.. إنّه الجهاد !
ذهب في ذلك العام أحد الأقارب إلى أفغانستان، كان شابّا في الثانية الثانوية، وكان من أحب الناس إلى قلبي..
شكّل ذهابه إلى الجهاد صدمة عندي، فقد كان شخصيّة مؤثرة بالنسبة لي، شخصيّة ذات كاريزما طاغية، بل فوق الطاغية.. فخلق ذهابه في نفسي معركة، وصرت جهاديّاً رغماً عن نفسي..
هو سافر من هنا.. وأنا عكفت على مراجعة كلماته وأحاديثه وهمّه الجهادي من هنا..
كان الجهاد هو كل ما يتكلّم عنه، ولكنّ ذهابه إلى أفغانسان كان توقيعاً على صدق تلك الكلمات، وكان تزكية لكل ما قاله..
لديه كمّ كبير من القصص، ويستطيع أن يسوق الآيات والأحاديث، بل ويقدر أن يحرك مشاعرك حول نقطة معيّنة وهمّ مؤرّق واحد: الجهاد في سبيل الله..
جميع أعداد مجلة الجهاد في مكتبته، وشخصيّته الأهم هي عبد الله عزام.. على حُسن عبادة وتخشّع، كنت إذا بتّ عندهم في بيتهم أتعب وأنا أرمقه في ظلام الغرفة واقفاً يصلي، فإذا ما ركع استغربت كيف يمكن لشخص أن يمكث كل هذا الوقت في وضع الركوع.. وهكذا.. كانت سجّادته لها عبق خاص.. فهو يحرص على تطييبها وكأنّها شخص مهم في حياته !
بعد ذهابه بيوم.. زرت بيته، فأحسست بأنّه بات وسيعاً جداً، صار بيتاً مترامي الأطراف.. كان وحده يملأه بأنسه، وكلامه، ونكاته، وكل شيء جميل.. عدت من تلك الزيارة بشيئين: بغصّة محرقة، وبروحه الجهاديّة التي انسكبت داخلي دون تخطيط مسبق !
أضافت أشرطة الأناشيد الجهادية (وقد كانت كل الأناشيد جهاديّة تقريباً) زخماً وعمقاً وصخباً في نفسي.. وصرت أتنفّس الجهاد، أنام وأستيقظ عليه.. وأحلم وأفكر وأتحدث عنه.. كنت دائم التفكير في كرامات المجاهدين، ورائحة المسك المنبعثة من أجساد الشهداء، كنت باختصار أسير في أزقة حي الخالدية، وقلبي يصعد جبال الهندكوش..
في ليلة ذات ملامح هادئة.. قال لي " صاحبي " هل تريد أن تذهب إلى أفغانستان؟ فقلت له وبدون تردد: نعم.. قال أمتأكد أنت؟ فقلت: متأكد جدّاً.. فأخبرني أن له علاقة بشخص يساعد من له رغبة في الذهاب.. فطلبته أن يكلّمه فوعدني..
اتصل بي بعدها وقال: ها.. أما زلت مصرّاً.. قلت: نعم..
قال كلّمت لك الرجل، فقال الخميس القادم موعد انطلاقه، وسوف يكون معه بعض الإخوان فإذا كنتَ مُصّراً ستكون معهم بإذن الله.. والذي عليك الآن فعله هو أن تحاول إقناع أمّك لتسمح لك..
لم أصدّق.. شعرت بفرح غريب..
دخلت على أمّي في المطبخ، وبدأت أكلّمها عن هذا الموضوع، وبأن الأمور ترتبت.. فكان ردّها رافضاً !
أكملت تلاوة الحجج والبراهين والمحفزات..
قلت لها: سوف أشفع لك في دخول الجنة.. فقالت: وما الذي يؤمّنك ألا يأسروك؟ فقلت: كل شيء بإرادة الله..
قلت لها: الجهاد واجب.. فقالت لي: واجب على الرجال.. صدمتني كلمتها ! فقلت: ألست رجلاً؟ فقالت: ما زلت شابا صغيرا !..
قلت لها وأنا أبكي يائساً: سوف أشتكيك عند الله.. سأقول لله: أمّي منعتني من الجهاد يا ربي.. فتحتُ باب المطبخ وعيناي تثعبان دمعاً.. فإذا بإخوتي متكدّسون عند باب المطبخ يستمعون للحوار وللبكاء.. انتثروا مع خروجي في أنحاء المنزل.. شعرت بحرج شديد من سماعهم تفاصيل ما دار بيني وبين أمي.. وعلمت أن ذلك الحوار سيكون مثار سخريتهم في الغد، وقد حدث ذلك..
دخلت غرفة أخي.. فإذا باتصال ينتظرني.. " صاحبي " يكلمني بصوت ضاحك !!
أخبرني أن كل ما قاله لي إنما هو اختبار منه لجدّيتي !
_ماذا؟
_كنت أمزح معك..
غضبت.. بل احتدّ غضبي..
قال لي: كنت أظنّك ستعلم ذلك، فكيف ستنطلق معهم الخميس القادم وأنت بلا جواز سفر !
بصدق، لم أكن أعرف معنى جواز السفر، بل لو وُضعتْ الخريطة أمامي وطُلب مني أن أشير إلى أفغانستان لما عرفت أين هي.. بل إني عندما أخبرني صاحبي بفكرة الذهاب تصوّرت أن شاحنة ما سوف تُقلّنا إلى أفغانستان..
كنت طفلاً .. وإن كنت لحظتها أظن أني رجل مكتمل الرجولة..
ومرّت الأيام..
واكتشفت أنّ " قدري هنا أحيا.. وعين الشر ترقب من سنين "..
واكتنزت الذاكرة الجمعيّة لأبناء الصحوة بمئات الأناشيد الجهادية، والتي عززت معاني العزة، والشهامة، والشجاعة.. ولفتت أنظارنا لإخوة لنا في أماكن أخرى من الأرض..
قد يكون (كثرتها) بلا (توجيه) من أسباب انحراف (البعض) سواء السبيل وأعني بالبعض أولئك الذين كانت أنفسهم متقبلة لمثل هذا الانحراف لأسباب نفسية أو تربوية أو بيئية، ولكنّها وبالحد المعقول كانت مؤثراً إيجابيا، ومعززاً لمعاني الإخوّة الإسلامية..
وشهادة أقولها: لا أعرف أحداً ممن أصحابي في الخالدية وممن كان معنا ضمن تلك الجلسات الإيمانية، وممن كنّا نستمع معهم لتلك الأشرطة الجهادية أنّه كفّر الدولة مثلاً، أو استحلّ دم مسلم، أو التحق بتنظيم يتبنّى أفكار الخوارج.. أقولها وبيني وبين تلك الأيام قرابة الربع قرن، ولكن لا بد من أن أدلي بشهادة حق، كلّهم يعظّمون أهل العلم الكبار من أمثال الشيخ ابن باز وابن عثيمين والجبرين والفوزان.. ويجلّونهم..
مضت تلك الأيام الجميلة.. وأشياء كثيرة نسيتها، وأشياء أخرى شارفت على ولوج منطقة النسيان.. الشيء الذي لا أظنّه سيمحى من ذاكرتي:
صوت أبي الزبير.. ورائحة سجادة قريبي.. وانتثار إخوتي من عند باب المطبخ !
رباعي الصحوة
أهداني ابن خالتي أربعة أشرطة:
1_ تداعي الأمم / سفر الحوالي.
2_ أسئلة حول الأحداث أو عنوان مشابه / سلمان العودة.
وشريطان آخران أحدهما لشيخ ناصر العمر والرابع أظنّه عائض القرني.. كلّها تدور حول أحداث الخليج، واحتلال صدام للكويت، ودخول القوات الأجنبية للسعودية.. ومعركة ذات المعارك !
سمعت الأشرطة كعادتي في سماع أي شيء، كانت الأشرطة بمجموعها صرخة نذير يقدّمها هؤلاء إلى البلد حكومة وعلماء وشعباً.. وكان أوضح الأشرطة وأكثرها جُرأة " تداعي الأمم " والذي شكّلته رؤية الشيخ سفر الحوالي، والتي فصّل الحديث عنها في كتابه " وعد كسينجر " وفي كثير من الأشرطة، بل وفي زيارات قام بها للمفتي آنذاك سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى، والتي مفادها واختصارها أن كل ما يدور مما يسمّى بأزمة الخليج إنما هو مسرحية متقنة التمثيل ذات إخراج أمريكي، تريد تجذير كيانها في الخليج.. وأتى بوثائق ومقولات لوزير الخارجية الأمريكي " هنري كسينجر " تصب في هذه القناعة.. لم يُرحّب رسمياً بكلام الشيخ سفر، ولكنّه لاقى تأثيراً شعبيّا، ولعلّ سحر الشريط الإسلامي ظهر جرّاء تلك الأشرطة، فبات المشايخ يعزفون على وتره، ويوّجهونه سياسيّاً، بعد أن كان أداة وعظية..
لم أنجذب لطريقة إلقاء الشيخ سفر الحوالي، ولم أتفاعل كما ينبغي مع ما يقدّمه الشيخ ناصر العمر، قليلاً أعجبني الشيخ سلمان.. فبقيت الصدارة للشيخ عائض القرني ذلك الذي يمزج حديثه بالقصص والشعر والطرائف.. لم أكن أحبّذ الطريقة العلمية الجافّة والوثائقية والرقمية.. كنت أحب ما هو أهدأ من هذا كلّه..
صار الشريط يسافر في يوم وليلة من القصيم حيث يلقي الشيخ سلمان محاضراته، ومن جدّة حيث يقدّم الشيخ سفر دروسه، ومن الرياض حيث يقيم الشيخ ناصر العمر ندواته، ومن أبها حيث يصدح الشيخ عائض القرني بخطبه.. يسافر من هناك إلى أرجاء المملكة.. ولا أظنّه يكمل الأسبوع حتى يصل إلى أوروبا وأمريكا وباكستان وإندونيسيا.. صار الشريط الإسلامي ظاهرة، وبات حديث المجالس والصحافة، وصارت إذاعات المدارس تقتبس منه، وخطب المساجد تستشهد به، والصحف الأمريكية ترسم الكاريكاتيرات عنه ! والسجون تفتح أبوابها استعداداً لابتلاع روّاده..
شهدت التسجيلات الإسلاميّة ازدهاراً غريباً بسبب ما يقدمه أولئك الأربعة على وجه الخصوص، وفي كل أسبوع كنّا على موعد مع ثلاثة أشرطة جديدة كحد أدنى.. وقد تصل إلى خمسة.. لأن الشيخين سلمان وعائض كانا أكثر انتاجاً.. فيبعثان أسبوعيا شريطين تقريباً..
كنت أجد وقتاً لحلقة القرآن، وللقاءات الأسبوعية مع شباب الحي، ولسماع الجديد من الأشرطة، ولجميع مناشط حياتي.. كان الوقت مباركاً ويتّسع لأشياء كثيرة..
وبينما أنا في غمار وتفاصيل صحويّة جميلة، إذ بخبر أسريّ محزن يخبرني أننا سنسافر في الأيام القليلة القادمة إلى المنطقة الشرقية/الجبيل لنقضي شهر رمضان كاملاً هناك، عند أخي يحيى ! حزنت لأنني سأفارق الأجواء الجديدة التي أنعشت روحي، أخبرت أصدقائي فحزنوا أيضاً..
رتّبنا أمور سفرناً، وودعت أصدقائي، واستأجرنا شقة مفروشة في الجبيل في عمارة " لؤلؤة الخليج " بالقرب من جامع أبي بكر الصديق.. وعشت رمضاناً غريباً بكل تفاصيله..
لؤلؤة الخليج
استأجر لنا أخي شقة في الدور الخامس من عمارة " لؤلؤة الخليج " في الجبيل البلد، فمكثنا فيها شهر رمضان وبعض أيام العيد..
كانت عمارة جديدة نوعاً ما، من عشرة أدوار تقريباً، مكتظة بالسكان، وبها قدر كبير من الإخوة الكويتيين.. بها مصعد قديم أكل عليه الدهر وشرب وقضى حاجته أيضاً !.. توقّف بي أنا وأخي عبد الرحمن في إحدى الليالي فأظلمت أنواره، وأظلمت بنا الدنيا معه، فاختنقت خوفاً، لأني مصاب برهاب الاختناق منذ طفولتي الأولى (لأني وقتها كنت أعيش طفولتي الثانية فأنا ما زلت في الرابعة عشر من عمري) ! وكدت أن أكبّر لأصلي ركعتي الاضطرار، ولم أسمع بمثل هذه الصلاة من قبل ولكنّ الحاجة أم الاختراع.. فقمت باختراع صلاة جديدة، وما إن رفعت يديّ بالتكبير حتى عادت أضواء المصعد وانفتح بابه الصدئ، وكفاني الله مغبّة الابتداع في الدين.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..
كنت أصلي العشاء والتراويح في جامع أبي بكر الصدّيق، كان إمامه حسن الصوت، وكنت معجباً بهيئته التي ذكرتني بأولئك الذين تعرّفت إليهم في تبوك، كنت أتمنى أن أقدر على كسر جدار الحياء وأذهب لأسلم على الإمام والمؤذن ولكن ذلك كان من التكليف بما لا يُستطاع..
إذا شعرت في ذلك الرمضان بارتفاع في إيماني صليت في جامع " أبي بكر " وإذا شعرت بخفوت فيه صليت في مسجد " ويل لكل همزة لمزة ! "..
وهو مسجد قديم قريب من شقتنا، سميناه بهذا الاسم لأنّ تراويحه دائماً عبارة عن قصار سُور جزء عمّ.. ولا بد أن تكون سورة الهمزة من ضمن تلك السورة (ليست مبالغة).. صلاة العشاء والتراويح عنده لا تتجاوز الربع ساعة.. نخرج من عنده ونتوجّه إلى شارع جدّة، وهو من أشهر وأقدم أسواق الجبيل، ولم أكن أذهب لشارع جدّة للتبضّع وإنما للنظر في أغرب شيء رأيته في حياتي..
وسوق جدّة في تلك الأيام مكتظ بالأمريكان كانوا بالمئات، يرتدون اللبس العسكري وكأنّهم في ثكنة، ويتجوّلون مجموعات مجموعات، وكانوا يحدجوننا ويتأمّلوننا وكأننا تحف فنية للبيع ! (فضلاً: ركّز على يحدجوننا!)
كان السعوديّون أقل شيء في ذلك السوق، وكنت أرى في بعض الأماكن فتيات متبرجات يضحكن ويعبرن شوارع السوق دون أكياس تبضّع..يبدو أن بعضهن لم تأت للتبضّع وإنما للاستبضاع !
كنت أنزل السوق بعد التراويح مع إخوتي فقط لأرى أولئك الأغراب وهم يروحون ويغدون ويتجوّلون.. رجالاً وهذا غريب، ونساء وهذا أغرب !! أجسامهم فارعة الطول.. وعيونهم زرقاء، وشعورهم شقراء، وألسنتهم عوجاء..
ذات ليلة رأيت تجمّعاً كبيراً فظننت أن جريمة قتل وقعت، وقلت في نفسي: لقد حدث ما توقعته.. اقتربت فإذا بأمريكي قد ركب على جمل وحوله بني جلدته منبهرين يتضاحكون، وهو يرى أنّه قد اعتلى برج إيفل ! شيء محزن أن ترى الثقافة الغربية وقد اعتلت الثقافة العربية !
انصرفت.. وأنا أشعر برهبة من أولئك الذين لم أكن متيقّنا: أجاؤوا ليدافعوا عنّا، أم ليأخذوا منّا !
كنّا نذهب في غالبيّة الليالي إلى ملعب " الحويلات " المزروع أنا وإخواني وبعض معارف أخي الأكبر وأصدقائه، فكانوا يلعبون وكنت أكتفي بالنظر إليهم وهم يلعبون، لأني كنت وما زلت أبعد ما أكون عن المهارة الكروية ! ولكن هطول أمطار مستمرّة تلك الأيام منعنا من الاستمرار في ذلك النشاط الرياضي..
كانت أمطاراً سوداء، كنا في النهار ننظر إلى السيارات والشوارع فإذا بها داكنة اللون جراء اغتسالها بتلك الأمطار التي نتجت عن اختلاط السحب الركامية القادمة من جهة الشرق بأدخنة مصانع تكرير النفط التي فجّرها صدّام حسين في الكويت.. كنا نلعن صدام ليل نهار، فقد ظهر الفساد بسببه في البر والبحر والجوّ..
صارت الشوارع بحيرات، وصرنا نخفف من الخروج من الشقة لأن الجبيل البلد في ذلك الوقت (وفي هذا الوقت أيضاً) مدينة سيئة الشوارع، مليئة بالحفر ! وقد كان الرصيف في لؤلؤة الخليج مرتفعاً جداً، ومع ذلك فقد بلغت مياه الأمطار حافّته ! وكنا ننتظر الفرج من الله حتى تجف تلك المياه، فلا صرف جيد، ولا بلدية يهمّها الأمر حتى تأمر بشفط تلك المياه.. ولك الله يا مواطن..
كان شهراً كئيباً، بعدت فيه عن الحياة الجديدة التي ملأتني سعادة في الخالدية.. بل وكانت هناك منغصات أخرى !
خرجت إحدى الليالي من شقتنا بالدور الخامس لأدعو أصدقاء أخي لشرب الشاي (أو العشاء.. لا أذكر) وكانوا يقطنون في الدور الأرضي.. ضغطت زر المصعد فإذا به ينفرج عن أربع فتيات تقريباً متبرجات استعداداً للذهاب إلى شارع جدّة فيما يبدو، تراجعت قليلاً رغبة في أن ينغلق المصعد وينزلن ثم أستدعيه مرة أخرى لأستخدمه لوحدي وهو خال.. ولكنّهن تفسّحن أو تزاحمن قليلاً ثم دعونني لأرافقهنّ بلهجة وقحة ! خفق قلبي، وأُحرجت، لم يسبق أن واجهت فتيات بهذه الجرأة وقلة الأدب.. فما كان منّي إلا أن ابتعدت وتوجهت للسلم وصرت أنزل على صدى ضحكاتهنّ الصاخبة..
وصلت قبلهن إلى الأسفل خرجت من بوابة العمارة الرئيسية ثم مشيت إلى نهاية زاوية العمارة وأخذت ذات الشمال ثم دلفت من بوابة جانبية لغرف العزاب، كان ممرا طويلاً مكشوفاً على السماء وكانت غرف العزّاب (تقريباً عشر غرف) على يمين ذلك الممر، فإذا بأحدهم واقف عند باب غرفته (الغرفة رقم ثلاثة تقريباً) مبتسم لي ! كانت ابتسامة مريبة، وتخايلت في عينيه شرراً شبيهاً بذلك الذين يظهر في أعين الأشرار في الأفلام الكرتونية، مدّ يده، فصافحته، حياني وتلطّف معي بالكلمات ثم طلب منّي الدخول لشرب شيء من القهوة !! وخزني قلبي بعنف فابتعدت واعتذرت منه، واصلت طريقي، وعندما وصلت غرفة أصدقاء أخي لأدعوهم.. لم أجدهم.. فعدت مسرعاً وخائفاً أن يخرج صاحب الغرفة الثالثة من غرفته.. أخذت ذات اليمين، وعند بلوغي زاوية العمارة أخذت اليمين مرّة أخرى فإذا بالمفاجأة أمامي !! الفتيات الأربع قادمات، سادّات الطريق، فما كان منّي إلا أن نزلت عن الجادّة لأغمر رجلي وساقي بمياه الأمطار التي تراكمت في الشارع، فانتقع ثوبي إلى منتصف الساق أو يزيد بالماء، وهنّ يضحكن من هذا الشاب الصغير الذي لا يريد أن يبقى على الطريق الذي سيلجئه أن يحتكّ بهن.. كان مشواراً سيئاً جداً، عدت إلى البيت وأنا محتقن من الفتيات الجريئات وذلك الرجل صاحب الغرفة رقم ثلاثة.. ومن لؤلؤة الخليج.. ومن حرب الخليج.. ومن كل شيء في الدنيا..
العودة إلى المدارس
عدت إلى تبوك، إلى الخالدية، إلى أصدقائي الجدد، بل أول أصدقاء حقيقيين أتعرف إليهم في حياتي..
كانت الدراسة على المشارف، لم تتمدد الإجازة، فثلاثة أشهر إجازة لمنتصف العام كانت كافية جداً فيما يبدو.. وممتعة جداً بالنسبة لنا.
عدت للمدرسة، عدت لنفس الأوجه التي غادرتني قبل ثلاثة أشهر أو أكثر، أعدت شريط " وصية شهيد " لمفرّح وشكرته عليه.. تذمر قليلاً لكون مظهر الشريط لم يعد بنفس الجودة، اعتذرت منه، فقبل الاعتذار مباشرة..
فرحت لمّا رأيت اثنين أو ثلاثة طلاب في المدرسة يرتدون الشماغ مثلي، ويقصّرون ثيابهم مثلي.. شعرت أن هناك من يشبهني.. وإن كنت لا أستطيع الاندماج معهم لعاهتي المستديمة، عدم القدرة على التعرّف ! ولكن لا بأس، يكفي أن أكحّل عيني برؤية هؤلاء، هم سيقرؤون خيالاتي، وأنا سأتهجّى خيالاتهم.. هذا يكفي.. لدينا في أحيائنا ما يغنينا عن أن نوسّع دائرة معارفنا أكثر..
يبدو أن الأستاذ " عبد الله شاهين " التزم، فها هي شعيرات لحيته بدأت تتنفّس الهواء الطلق، كان مسؤول الإذاعة، صارت الإذاعة عبارة عن نافذة أخرى من نوافذ الصحوة.. صرت آتي الصباح إلى الطابور وأستمع إلى أناشيد من الشريط القديم الرائع " نداء وحداء رقم 1 ".. كنت أشعر أن كل كلمة في الشريط تكلمني أنا بالذات من بين مئات الطلاب.. لأنّهم كلهم تقريباً يستمعون إلى الغناء، أنا من كانت هذه الكلمات غنائي وطربي:
بصوتي بل بإيماني
أنادي كل إخواني
فمركز صيفنا يشدو
برؤيا خير فتياني
بإخواني.. بإخواني
كنت أعيش تفاصيل ذلك النشيد الحزين والذي يهتف فيه من ينشده:
اقتلوني.. مزّقوني
اقتلوني.. مزّقوني
أغرقوني في دمائي..
لن تعيشوا فوق أرضي
لن تطيروا في سمائي..
ثم وعلى جرس بداية الطابور الصباحي تنطفئ تلك الأناشيد لأعود إلى الواقع الكالح.. مئات الطلاب الذين أشعر أني من جزيرة، وهم من جزيرة أخرى.. لهم هوايات.. وأفكار.. وأحاديث، مختلفة تماماً عن هواياتي وأفكاري وأحاديثي..
كانت المدرسة بالنسبة لي سجنا في ذلك الوقت، فلم أعد شغوفاً بزملائي فيها، لأمزّق معهم شيئا من وحدتي، لأني لم أعد وحيداً، لقد أبدلني الله بأصدقاء حقيقيين في حيّنا، وصرت لا أرى مثلهم في العالم، كنت أُمضي الوقت مع زملاء المدرسة على مضض، وأشعر أني أكبر منهم وأعظم ثروة منهم، كلّهم أطفال، أنا الوحيد الرجل (معذرة: سأكون صادقا في نقل مشاعر ابن الرابعة عشر، وليست بالطبع ما أعتقده الآن)، كلامهم عن مباراة الهلال والنصر، أو عن حركة الكابتن ماجد التي خرق بها شباك المرمى، أو عن دور الممثلة الفلانية في المسلسل الجديد.. كانوا يستغلون وقت الخمس دقائق بين الحصص بالتطبيل ! كانت المدرسة أقل بكثير مما وجدته في مدرستي الخاصة بحي الخالدية، مدرسة الصحوة..
كنت أستغل وقت الفراغ أو حتى وقت الحصص التي لم أكن أندمج معها في حفظ واجب الحلقة، أو قراءة كتاب مفيد، أو تذكر بعض أبيات الشعر التي سمعتها في شريط عائض القرني الجديد، أو تخطيط لزيارة لأحد الأصدقاء.. وهكذا.. هذا ما أفكر فيه.. وذاك ما يتحدّثون عنه !
ذات يوم أخذ معلّم اللغة العربية يسأل الطلاب: من أقوى جسديّا الطالب الفلاني أم الطالب الفلاني، وبدأ الطلاب يحللون له الموضوع.. فدلف صوتي من بين زحام الأصوات معلياً به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب ".. يبدو أنّي بهذا الحديث قد أظهرت أستاذي وكأنّه طفل صغير يحرّش الطلاب على بعضهم.. فما كان منه إلا أن أعاد قراءة الحديث بلغة ساخرة، أشعرتني لحظتها أن الذي يقوم بتربيتي يحتاج إلى تربية ! لم يضحك الطلاب من سخريته بي.. بل تعاطفوا معي.. وانتهى الموقف بتعزيز شعوري بأن تلك المدرسة ليست المكان المناسب لي..
سألت أستاذ الدين سؤالاً يبدو أنّ إجابته كانت غائبة عنه فقال لي:
أنا أعلم لماذا تسألني دائماً..
سألته ببراءة: لماذا أسألكَ؟
فقال: لتحرجني !
هكذا فضّل أن يُظهر نفسه أمامي.. تافهاً، ضعيف الشخصية، لم أكن أعلم أن الأسئلة ستحرج أحداً، كنت طالباً للمعرفة فقط لا غير.. ولكنّه فضّل أن يظهر سوءة جهله أمامي.. فقررت أن لا أرفع بصري إليه أبداً.. منذ تلك الكلمة إلى أن غادرت مدرسة الأبناء الثالثة لم أنظر إليه فضلا عن أن أسأله أو حتى أشارك في حصّته.. استطاع وبمهارة أن يجعل قلبي الصغير يكرهه بعنف..
في درس الجغرافيا أجاب الطالب " نادر " إجابة صحيحة فطلب أستاذ المادّة من الطلاب أن يحيّوه، كنت مقتنعاً وقتها بفتوى الشيخ ابن باز _ رحمه الله_ بحرمة التصفيق.. فلم أصفّق، نظر إليّ زميلي المجاور لي، فلم يصفّق اقتداء بي..
انتبه الأستاذ لعدم مشاركتنا في تحيّة نادر، فأوقف الجميع عن التصفيق وتوجّه إلينا وأنهضنا.. قال لي: لماذا لا تصفّق؟ قلت له: التصفيق حرام ! اتسعت عيناه.. سألني من قال بهذا؟ فقلت: سماحة مفتي المملكة العربية السعودية الشيخ عبد العزيز بن باز.. ولإحراجه قلت له: والأستاذ مِنوِر (أستاذ القرآن) أخبرنا بذلك.. ولمزيد إحراج قلت له: وأنت قبل يومين في طابور الصباح سمعت الفتوى في كلمة الصباح وطلبت منّا أن نذكّرك بحُرمة التصفيق !
يبدو أنّه أحرج بما فيه الكفاية وأراد في هذه اللحظة ممارسة الإحراج ضدّي فقال لي: كل التصفيق حرام؟ قلت: نعم.. فقال: حتى أولئك الذين يصفّقون للملك بعد انتهاء كلمته في المحافل هل تصفيقهم حرام..
ظنّ الأستاذ أن مثل هذا السؤال سيحرجني، وأنا الطفل الذي لا أفرّق أصلا بين الملك وغير الملك.. فقلت: حتى ذلك التصفيق حرام يأثمون لأجله..
اتسعت عيناه تذمراً من هذا الطالب الذي قرر أن يهينه ! هذا ما اعتقده فيما يبدو..
كان ذلك الحوار يدور بيني وبين الأستاذ وهو ممسك بتلابيب ثوبي، مما جعل ثوبي القصير يزيد قصره، شعرت بالإهانة، ولكنّي صمدت..
أبعد يده، ثم أمرنا أن نصفّق بلغة تهديديّة، كنت صغيراً لم أستطع مواصلة الموقف فطبطبت بفتور شديد يديّ ببعضهما ثلاث مرات بشكل لا يسمّى تصفيقاً وإنما تسكيتاً له، أما صاحبي فقد صفّق بعنف !
أجلسه، وأبقاني واقفاً طوال الحصّة.. لعلّ تذكر في نهاية الحصة أن أخي " عيسى " ضمن طاقم موظفي المدرسة وأنّي سأشتكيه له.. فأجلسني واعتذر مني ! جلست، فتمتم زميلي المجاور في أذني قائلا: والله إنك مطوّع صح..
شعرت بضرورة الخروج من تلك المدرسة التي لا تتواءم مع نظرتي للحياة، ومع مبادئي التي استقيتها من أصدقائي الجدد ومن دعاة الكاسيت، ومن تلك الكلمات الإنشادية التي تزرع في نفوس الفتيان أمثالي القوة والشجاعة والصمود.
شعرت بكآبة، فكل المدارس تتشابه، وفي كل مدرسة معلم يسخر بطالبه، وآخر يمسك طالبه من تلابيبه مهيناً، وآخر يقول لطالبه يا جزمة !
ملاحظة: رحم الله كل من علّمني حرفاً، أنا الآن لا أكنّ لمعلّميّ إلا كل خير وأدعو لهم.. ولكنّي أدوّن مشاعر فتى صغير.. فسامحوني في التجاوز.. وليعلم المعلمون ما يضمره التلاميذ من مشاعر تجاه تصرفاتهم فيحذروا..
عيد جديد
مرّت الأيام، وجاءت إجازة عيد الأضحى، وكان ذلك أوّل عيد أقضيه في تبوك بعد مصاحبتي لفتيان الصحوة، كنت سعيداً جداً بتلك المناسبة الجديدة، ولم أكن أدري عن كيفيتها، ولكنّي كنت متيقّناً أنّه العيد الأجمل في حياتي..
ليلة العيد قيل لي إن صلاة ظهر الغد ستكون في جامع الملك عبد العزيز ! أصبحنا يوم العيد، وعيّدت مع الأهل.. ولمّا صعدت الشمس قليلاً وأصبحت أشعّتها أكثر جُرأة مرّني موفق أو هاتفته (لم أعد أذكر) عيّدت عليه ثم توجّهت على استحياء إلى بيت صاحبنا أحمد، ذلك الذي تضاربت معه في بيت موفّق، كنت مستحياً منه، إذ أنّي لم ألتقه بعد ذلك الشجار الساخن.. طرقنا الباب، فتح والده الذي كان يكنّ لي حبّاً وتقديراً على صغر سنّي.. عيّدت عليه ثم دلفت المجلس، جاء أحمد فابتسمنا وفي لمح البصر نسينا كل شيء.. كانت طفولتنا التي تهمّ بالمغادرة مازالت قادرة على أن تنسينا بعض تفاهات الحياة..
جلسنا وأكلنا شيئا من الحلوى والقهوة وبعض ما يقدّمه الناس في العيد.. كان لمجلس أحمد أنساً لا زلت أذكره، ورائحة البخور تعطي خلفية لذلك المجلس القديم الجميل..
لا أظنّ مساحة مجلس أحمد تتجاوز الثلاثة أمتار في ثلاثة أمتار، ولكنّه ضمّ الكثير من الجلسات الجميلة التي سعدنا فيها بذكر الله، وبالأحاديث الودّية، وبسماع الأشرطة...الخ
قبل أن نغادر شغّل أحمد شريطاً اشتراه للتوّ، وإن كان نزل قبل ذلك بعامين إلى السوق، اسمه " وادي العقيق " استمعنا إلى ما شاء الله أن نستمع من الأناشيد الجهاديّة والاستشهاديّة، حتى في العيد نأبى إلا أن نشعر بأحزان الأمّة، أبداً لست حزيناً على مثل تلك الأمور، لقد كنّا معجونين بأمّتنا.. كنا لا نجرؤ على أن نفرح فرحاً كاملاً، وأمّتنا تهان إهانات كاملة !
أذكر من كلمات ذلك الشريط:
عجبت لهم تغطيهم دماء
ويبتسمون في فرح شديد
إذا قُتلوا فقد نالوا الأماني..
وإن قَتلوا فويل للجحودِ
ومن تلك الأناشيد:
ينام أخي على زندي..أظلله بأهدابي..
وفي قلبي فرشت له..فهل يدري أخي ما بي؟
بحثت بوجهه الدامي..لأزرع قبلة فيه..
فحيّرني وآلامني..بتمثيل وتشويه
وفارقني بلا دمع.. وأبلغ منه ذا الصمتُ
وأكظم غضبتي حينا: لكل تفجّر وقت ُ
أكاد أصيح من حزني.. بأن فوادي احترقا
سأصبر إن في صدري..وإن غالبته الرهقا...
أتوك أخي بما ملكت حضارتهم من الغدر
وحين سقطت لم يجدوا رصاص الغدر في الظهر
وقبيل الظهر تحرّكنا إلى جامع الملك عبد العزيز، وقد كان في تلك الأيام أكبر وأحدث جامع في تبوك، لم نستطع أن ندرك الصلاة في الجامع فصلينا في إحدى المساجد وبعد الصلاة مباشرة ذهبنا، لنتفاجأ !
عشرات الشباب متجمهرون في وسط المسجد يسلّمون على بعضهم، وجدت كثيراً من الشباب الذين التقيتهم في مكتب الدعوة والإرشاد.. لا زلت أذكر من تلك الأوجه النيّرة وجه الشيخ متعب الزهراني وابتسامته المبهجة ! العدد مئة شاب أو ما يقارب المئة، فقط أتوا ليتبادلوا التهنئة بعيد الأضحى المبارك، لم يخرجوا من بيوتهم لأجل دنيا، فقط الحب في الله، والشوق للقاء الأحبّة هو الذي أخرجهم..
كنت بينهم كالغريب، لأني غشيم على مثل هذه الأمور، فسلمت على الذين أعرفهم وتركت الأوجه الجديدة دون سلام، مع أنّهم كانوا يسلمون على بعضهم دون استثناءات.. بعد ربع ساعة تقريباً كانت مراسم التهاني قد انتهت.. رجعنا إلى سيّارتنا.. ولم ننزل إلى بيوتنا إلا على موعد أن نلتقي في العصر لنعيّد على بعض من نعرف..
وبالفعل جاء العصر وخرجنا لنعيّد على ما استطعنا من بيوت أصحابنا ومشايخنا.. كان عيداً جديداً، خرجت فيه من بوتقة العيد العائلي، فأضفت إليه عيدا إلى عيدي..
مختارات