91. عبادة بن الصامت
عبادة بن الصامت
"قبح الله أرضا ليس فيها -عبادة بن الصامت - وأمثاله" [عمر بن الخطاب]
صحابي هذه المرة … أنصاري؛ عقبي؛ بدري (١).
وحسبك بهذه المآثر الثلاث؛ أوسمة رفعة وفخار في الدنيا …
وشواهد رضا وزلفى (٢) عند الله في الآخرة.
أما أبوه؛ فكان يدعى الصامت …
وأما أمه؛ فكانت تسمى قرة العين …
وأما هو؛ فكان يدعوه الناس عبادة.
ومن منا معشر المسلمين لا يعرف عبادة بن الصامت؟!.
فهو أحد الأبرار الأطهار الذين آووا ونصروا.
وهو أحد الثلاثة والسبعين الذين بايعوا بيعة العقبة.
وهو أحد البدريين الذين اطلع عليهم الله ﷿؛ فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.
فإذا أضفت إلى ذلك أنه خامس خمسة جمعوا القرآن على عهد النبي ﷺ؛ بلغت به غاية الغايات …
ووصلت به إلى أرقى الذرى، وأرفع الدرجات.
* * *
قضى عبادة بن الصامت حياته مجاهدا؛ عابدا؛ معلما.
فكان في ساحات القتال؛ أسدا مغوارا (٣).
وكان في سكون الليل؛ متبتلا أواها (٤).
وكان في أوقات السلم؛ يعلم المسلمين كتاب الله، ويفقههم في دين الله.
* * *
فبعد أن فتح الله على المسلمين ديار الشام؛ أرادوا أن يفتحوا العقول والقلوب؛ كما فتحوا المعاقل والحصون …
فكتب أمير دمشق إلى خليفة المسلمين؛ عمر بن الخطاب ﵁ يقول:
إن المسلمين في بلاد الشام قد كثروا واحتاجوا إلى من يعلمهم القرآن، ويفقههم بدين الله …
فأعني يا أمير المؤمنين برجال يعلمونهم.
فدعا عمر رضوان الله عليه؛ النفر الخمسة الذين جمعوا القرآن على عهد رسول الله ﷺ، وهم: عبادة بن الصامت، ومعاذ بن جبل (٥)، وأبي بن كعب (٦)، وأبو أيوب الأنصاري (٧)، وأبو الدرداء (٨)؛ ﵃ أجمعين
وجزاهم عن أمة محمد ﷺ أكرم الجزاء.
فلما صاروا بين يديه؛ قال لهم:
إن إخوانكم من أهل الشام قد استعانوني بمن يعلمهم القرآن ويفقههم بالحلال والحرام … فأعينوني - رحمكم الله - بثلاثة منكم …
وإن أحببتم فاستهموا (٩).
فقالوا: ما كنا لنستهم يا أمير المؤمنين: فأبو أيوب الأنصاري شيخ كبير، وأبي بن كعب رجل مريض، وبقينا نحن الثلاثة.
فوجههم عمر رضوان الله عليه وعليهم إلى ديار الشام.
فأقام عبادة بن الصامت في حمص …
ونزل أبو الدرداء في دمشق …
وحل معاذ بن جبل في فلسطين.
* * *
كان عبادة بن الصامت حين بايع الرسول صلوات الله وسلامه عليه ليلة العقبة؛ قد بايعه على السمع والطاعة …
وأن يقول الحق أينما كان …
وألا يخاف في الله لومة لائم.
فلما رأى من أمير الشام معاوية بن أبي سفيان ﵁ ما لم ترتح إليه نفسه؛ راجعه فيما رآه وندد به …
فلم يأخذ معاوية برأيه، ودعاه إلى طاعته؛ فغضب عبادة، وقال:
والله لا أسكن معك في أرض واحدة.
وعاد أدراجه إلى المدينة.
فلما قدم على عمر بن الخطاب ﵁؛ قال له:
ما أقدمك يا عبادة؟!.
فأخبره بما كان بينه وبين معاوية من خلاف.
فقال: ارجع إلى مكانك؛ قبح الله أرضا ليس فيها أنت ولا أمثالك.
ثم كتب إلى معاوية يقول:
لا إمرة لك على عبادة بن الصامت؛ وإنما هو أمير نفسه
* * *
ثم إن عمرو بن العاص مضى إلى مصر فاتحا - وكانت خاضعة لحكم الروم - فطفق يحرر مدنها وقراها إلى أن استعصى عليه حصن "بابليون"؛ الواقع على ضفة النيل بالقرب من القاهرة اليوم.
وكان السبب في استعصاء الحصن عليه؛ أن الروم حفروا حوله خندقا عظيما، وثبتوا في الطرق المؤدية إليه حسك الحديد … ليعوق الرجال والخيل عن التقدم نحوه … وشحنوه بالجنود والعتاد، ونقلوا إليه رجال دولتهم وعظماء القبط من أهل مصر، وعلى رأسهم المقوقس؛ بطريرك مصر وحاكمها.
* * *
حاصر عمرو بن العاص الحصن أملا في أن يضيق حماته ذرعا بالحصار
فيستسلموا له.
غير أن النيل ما لبث أن فاض …
فنسف الروم السدود، وقطعوا الجسور …
فأحاط الماء بالمسلمين من كل جانب، وكادوا يهلكون غرقا.
عند ذلك؛ كتب عمرو بن العاص إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أن يعينه بمدد من عنده.
فبادر عمر إلى إمداده بأربعة آلاف من جند المسلمين، وجعل على كل ألف قائدا يقوم مقام ألف؛ هم: عبادة بن الصامت، والزبير بن العوام (١٠)، والمقداد بن الأسود (١١)، ومسلمة بن مخلد.
* * *
علم المقوقس بالمدد الذي وصل إلى جيش المسلمين؛ فأرسل إلى عمرو بن العاص وفدا من خيرة رجاله ليفاوضوه، وأوصاهم بأن يقفوا له على أحوال المسلمين، وأن ينقلوا له صورة دقيقة واضحة عن حياتهم؛ كما لو كان يراها هو بنفسه.
فقضى رجال الوفد في ضيافة المسلمين ثلاث ليال؛ فلما عادوا سألهم المقوقس عما رأوا وما سمعوا؛ فقالوا:
لقد رأينا - والله - قوما الموت أشهى إليهم من الحياة …
والتواضع أحب إليهم من الرفعة …
جلوسهم على التراب، وأكلهم على الركب (١٢).
أميرهم كواحد منهم؛ فما يعرف سيدهم من مسودهم، ولا رفيعهم (١٣) من وضيعهم (١٤).
إذا أقيمت الصلاة لم يتخلف عنها أحد منهم؛ يغسلون أطرافهم ووجوههم بالماء، ويخشعون لربهم في الصلاة.
فقال المقوقس:
والله! لو أن هؤلاء استقبلوا (١٥) الجبال لأزالوها …
ولو نازلوا (١٦) الجن لأبادوها.
* * *
وكأنما أراد المقوقس أن يرى بأم عينيه ما حدثه به رجاله؛ فكتب إلى عمرو بن العاص يقول:
أرسلوا إلينا رسلا من عندكم لنفاوضهم ونعاهدهم.
فأرسل إليه عشرة من رجاله، وأمر عليهم عبادة بن الصامت.
* * *
كان عبادة بن الصامت طويل القامة عظيم الهامة؛ كث الشعر شديد الهيبة … يملأ عين رائيه رهبة وروعة.
فلما تقدم من المقوقس هابه أشد الهيبة، ودخل في نفسه منه خوف عظيم.
فقال لرجال الوفد: نحوا عني هذا الرجل وقدموا غيره ليكلمني.
فقالوا: هذا أميرنا، وقد عهد إلينا عمرو بن العاص بألا نتقدم عليه، وألا نخالف له أمرا.
فقال المقوقس لعبادة: تقدم إلي أيها الرجل، وكلمني برفق؛ فإني أهاب (١٧) منظرك.
فقال له عبادة: أراك خفتني؛ فكيف لو رأيت أصحابي … وفيهم ألف رجل كلهم أشد مني قوة وهولا.
فقال له المقوقس:
ما الذي أخرجكم من دياركم؟! وما الذي تريدونه منا؟.
فقال عبادة بن الصامت:
إنا والله! ما خرجنا؛ إلا ابتغاء مرضاة الله ﷿.
وقد عهد (١٨) إلينا نبينا ﷺ ألا تكون بغية (١٩) أحدنا من الدنيا؛ إلا ما يسد جوعته، ويستر عورته؛ لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم … وإنما النعيم نعيم الآخرة.
فقال له المقوقس:
قد سمعت مقالتك، ولعمري ما بلغتم الذي بلغتموه إلا بما ذكرت، وما انتصرتم على الذين انتصرتم عليهم إلا لحبهم الدنيا وكرهكم لها …
غير أن الروم قد جمعوا لكم ما لا يحصى عدده، وإنا لنعلم أنكم لن تقووا عليهم؛ لقلتكم وضيق ذات يدكم (٢٠).
ونحن تطيب أنفسنا بأن نعطي لكل رجل منكم دينارين، ولأميركم مائة دينار، ولخليفتكم ألف دينار، وتنصرفوا عنا قبل أن يصيبكم ما لا طاقة لكم به.
* * *
فقال له عبادة بن الصامت:
إن ما تخوفنا به من كثرة الروم؛ لا يصدنا عن غايتنا، وإننا موقنون بأننا سنفوز بإحدى الحسنيين: فإن ظفرنا بكم عظمت لنا غنيمة الدنيا، وإن ظفرتم بنا عظمت لنا غنيمة الآخرة …
واعلم أنه ليس فينا رجل واحد؛ إلا وهو يدعو الله بعد كل صلاة أن يرزقه الشهادة وألا يرده إلى أهله خائبا … وقد استودع كل واحد منا أهله وولده عند الله.
ثم عرض على المقوقس: الإسلام، أو الجزية (٢١)، أو القتال.
فأبى قوم المقوقس الإسلام، وأنفوا (٢٢) من دفع الجزية …
فلم يبق إلا القتال.
* * *
عند ذلك؛ عزم المسلمون على اقتحام الحصن مهما كان الثمن غاليا …
فقام الزبير بن العوام وقال: إني أهب (٢٣) نفسي لله ﷿، وأخذ سلما عاليا ليرقى به على جدار الحصن، وطلب من جنود المسلمين أن يكبروا وراءه
بصوت واحد إذا سمعوا تكبيره.
وما هي إلا لحظات؛ حتى كان الفارس المغوار يمتطي أسوار الحصن وهو مشهر سيفه، وصيحة "الله أكبر" تنطلق مدوية من فمه …
فانطلقت وراءه آلاف الحناجر تردد "الله أكبر"؛ فزلزل دويها القلوب ودك العزائم.
وألقى الزبير بنفسه داخل الحصن، وتبعه طائفة من جند المسلمين.
فأعملوا السيوف في رقاب الروم الذين أذهلتهم المفاجأة، وفتحوا باب الحصن في وجوه المسلمين.
فتدفق عليه صحابة رسول الله ﷺ، وعلى رأسهم عبادة بن الصامت.
ودارت بين الفريقين رحى معركة ضروس؛ كتب الله فيها لجنده النصر، وضمت إلى دولة القرآن لؤلؤة الدنيا مصر (*).
_________
(١) عقبي: نسبة إلى العقبة حيث بايع الأنصار الرسول ﷺ تلك البيعة المشهورة، وبدري: نسبة إلى موقعة بدر.
(٢) زلفى: قربى.
(٣) المغوار: الكثير الإغارة على الأعداء.
(٤) متبتلا أواها: المتبتل: المنقطع عن الدنيا المنصرف إلى الله، والأواه: الكثير التأوه من خشية الله.
(٥) معاذ بن جبل: انظره في الكتاب السابع من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(٦) أبي بن كعب: انظره ص ٣٩.
(٧) أبو أيوب الأنصاري: انظره في الكتاب الأول من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(٨) أبو الدرداء: انظره في الكتاب الثالث من "صور من حياة الصحابة" للمؤلف.
(٩) فاستهموا: فاقترعوا.
(١٠) انظره: ص ١٦٥.
(١١) انظره: ص ٤٠٩.
(١٢) وأكلهم على الركب: أي يجلسون على الأرض أثناء الأكل.
(١٣) رفيعهم: كبيرهم، وصاحب القدر فيهم.
(١٤) وضيعهم: صغير القدر أو المنصب بينهم.
(١٥) لو استقبلوا: لو اتجهوا إلى الجبال لأزالوها من مكانها.
(١٦) لو نازلوا الجن: أي لو حاربوهم.
(١٧) أهاب: أخاف وأخشى.
(١٨) عهد إلينا: أوصانا، وأخذ علينا العهد.
(١٩) البغية: الطلب والرغبة.
(٢٠) ضيق ذات يدكم: فقركم واحتياجكم.
(٢١) الجزية: ما يدفعه أهل الذمة مقابل حمايتهم.
(٢٢) أنفوا: استكبروا.
(٢٣) أهب نفسي: أي أبيعها بيع سماح، وكأنها صدقة أتقرب بها إلى الله.
مختارات