فقه حقيقة العبودية (١١)
فالدينونة في هذا كله لله وحده لا شريك له هو مدلول العبادة التي خص الله سبحانه بها نفسه ولم يجعلها لأحد من خلقه: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٤٠)} [يوسف: ٤٠].
فالكون كله يسبح الله عبودية وطاعة لله: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (٤٤)} [الاسراء: ٤٤].
إن كل ذرة في هذا الكون الكبير تنتفض روحاً حية، تسبح الله، فإذا الكون كله حركة وحياة، وإذا الوجود كله تسبيحة واحدة ترتفع في جلال ودوام إلى الخالق الكبير المتعال.
وإنه لمشهد كوني فريد حين يتصور القلب كل حصاة، وكل حجر، وكل ذرة، وكل حبة، وكل ورقة، وكل زهرة، وكل ثمرة، وكل نبتة، وكل شجرة، وكل حشرة، وكل زاحفة، وكل طير، وكل حيوان، وكل إنسان، وكل دابة على الأرض، وكل سابح في الماء، وكل طير في الهواء، وكل مختبئ في الأرض، ومع هؤلاء سكان السماوات، وكلها تسبح الله، وتتوجه إليه في علاه ناطقة بحمده، مسلمة لأمره: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١)} [الجمعة: ١].
وإن القلب ليرجف، وإن الوجدان ليرتعش، وهو يستشعر الحياة تدبُّ في كل ما حوله فيما يراه وفيما لا يراه.
وكلما همت يده أن تلمس شيئاً، وكلما همت رجله أن تطأ شيئاً، وكلما همت عينه أن ترى شيئاً، سمعه يسبح الله، وينبض بالحياة، ويدين لربه بالطاعة: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (٤٤)} [الاسراء: ٤٤].
ألا ما أجهل البشر، وما أعظم غفلتهم، وما أشد تقصيرهم.
إن كل ذرة في هذا الكون تسبح الله عزَّ وجلَّ.
فأين البشر في ظل هذا الموكب العظيم من الكائنات والمخلوقات العظيمة الهائلة التي تسبح بحمد الله؟
إن البشر في جحود.
وفي غفلة.
وفيهم من يكفر بالله.
وفيهم من يشرك بالله.
وفيهم من ينسب له البنات.
وفيهم من لا يقدر الله حق قدره.
وفيهم من يغفل عن تسبيحه وحمده.
إن البشر أولى من كل شيء في هذا الكون بالتسبيح والتحميد، والمعرفة والتوحيد، لما أكرمهم الله به من العقول، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، ووافر النعم، فماذا يريدون فوق ذلك؟.
{فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠)} [المرسلات: ٥٠].
ولولا حلم الله وعفوه ومغفرته لأخذ البشر أخذ عزيز مقتدر، ولكنه يمهلهم ويذكرهم ويعظهم إنه كان حليماً غفوراً.
إن الروح حيث تشف وتصفو، فتسمع لكل متحرك أو ساكن، وهو ينبض بالروح، ويتوجه بالتسبيح لبارئه وفاطره، فإنها تتهيأ للاتصال بالملأ الأعلى، وتدرك من أسرار الوجود ما لايدركه الغافلون.
إن العبادة في الإسلام ليست هي مجرد الشعائر فقط، إنما هي كل عمل.
كل نشاط.
كل حركة.
كل خالجة.
كل نية.
كل اتجاه.
وإنها لمشقة أن يتجه الإنسان في هذا كله إلى الله وحده دون سواه، وأن يتجرد من كل شاغل، ومن كل هاتف، ومن كل التفات.
وإنها مع المشقة للذة لا يعرفها إلا من ذاق طعمها، ولكنها لا تنال إلا بتلك المشقة، وإلا بالتجرد لها، وإلا بالصبر عليها.
إنها مشقة تحث إلى الصبر والاصطبار ليتوجه القلب في كل نشاط من نشاط الأرض إلى السماء، خالصاً من أوشاب الأرض، وأوهاق الحاجات، وشهوات النفس، ومطالب الحياة.
إنه منهج حياة كامل يعيش الإنسان وفقه وهو يستشعر في كل صغيرة وكبيرة طوال الحياة أنه يتعبد الله، فيرتفع في نشاطه كله إلى أفق العبادة الطاهرة.
وإنه لمنهج عال يحتاج ويستحق الصبر والمجاهدة والمعاناة، ليرتقي الإنسان سامعاً مطيعاً إلى أفق المثول بين يدي الرب المعبود في جميع أحواله {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥)} [مريم: ٦٥].
وإنه لمن العجيب حقاً أنه مع ظهور الدلائل والبراهين في الآيات الكونية، والآيات الشرعية، لا يزال هناك من يجادل في الله، والجدال في الله بعد تلك الدلائل يبدو غريباً مستنكراً، فكيف إذا كان جدالاً بغير حق، وبغير علم، لا يستند إلى دليل، ولا يقوم على معرفة، ولا يستمد من كتاب ينير القلب والعقل، ويوضح الحق، ويهدي إلى اليقين؟.
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (٨) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ} [الحج: ٨، ٩].
هذا المستكبر المتعجرف لا يكتفي بأن يَضل، إنما يحمل غيره على الضلال، هذا المستكبر الضال المضل لا بدَّ أن يقمع، ولا بدَّ أن يحطم.
فله في الدنيا خزي وهو المقابل للكبر، وقد يمهله الله أحياناً ليكون الخزي أعظم، والتحقير أوقع، أما عذاب الآخرة فهذا أشد وأوجع: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (١٠)} [الحج: ١٠].
ومن الناس كذلك فرقة سلكوا طريق الضلال، وجعلوا يجادلون بالباطل أهل الحق، وهؤلاء في غاية الجهل، وليس عندهم من العلم شيء، وغاية ما عندهم تقليد أئمة الضلال من كل شيطان مريد، متمرد على الله وعلى رسله، معاند لهم، قد شاق الله ورسوله، وصار من الأئمة الذين يدعون إلى النار: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (٤)} [الحج: ٣، ٤].
وهذا نائب إبليس حقاً، فقد جمع بين ضلاله بنفسه، وتصديه إلى إضلال الناس، وهو متبع لكل شيطان مريد.
ويدخل في هؤلاء جمهور أهل الكفر والبدع، فإن أكثرهم مقلدة يجادلون بغير علم ولا هدى.
مختارات