فقه حقيقة العبودية (١٣)
وإذا استقر الإيمان في قلب الإنسان حرك جوارحه للعمل والطاعة، وكلما قوي الإيمان قويت العبادات، وزادت الطاعات.
ولم يشرع الله أمراً فوق طاقة البشر، ولم يكلفهم إلا بما يستطيعون، وقد شرع سبحانه التكاليف وفق ما يعلم من استعداد النفوس، وهو محاسبهم وفق ما يعملونه في حدود الطاقة.
لا يظلمون بتحميلهم ما لا يطيقون، ولا يبخسهم شيئاً مما يعملون، وكل ما يعملونه محسوب في سجل لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها: {وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٦٢)} [المؤمنون: ٦٢].
وإنما يغفل الغافلون من البشر؛ لأن قلوبهم في غمرة عن الحق، لم يمسها نوره المحيي؛ لأنشغالها عنه، واندفاعها في غمرة النية وسط غمرة من الجهل والظلم، والإعراض تمنعهم من الوصول إلى هذا القرآن والانتفاع به: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (٦٣)} [المؤمنون: ٦٣].
إن الكون كله يسبح الله.
سماواته وأرضه.
إنسه وجنه.
أملاكه وأفلاكه.
أحياؤه وجماده: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٤١)} [النور: ٤١].
إن الإنسان ليس وحده في هذا الكون الفسيح، بل حوله، وعن يمينه، وعن شماله، ومن فوقه، ومن تحته، وحيثما امتد به النظر أو طاف به الخيال خلائق لا يحصيها إلا الله.
لها طبائع شتى، وصور شتى، وأحجام شتى، ووظائف شتى.
ولكنهم بعد ذلك كله يلتقون في الله، ويتوجهون إليه، ويسبحون بحمده.
والقرآن يوجه الإنسان إلى النظر في ملكوت السماوات والأرض، وإلى ما حوله من خلق الله، وهم يسبحون بحمده وتقواه، كل قانت لربه، عابد له، كل قد علم صلاته وتسبيحه.
والإنسان وحده هو الذي يغفل عن تسبيح ربه، وهو أجدر خلق الله بالإيمان والتسبيح، والعبودية والطاعة.
إن الله تبارك وتعالى هو العلي العظيم، وكتابه عظيم، ورسوله عظيم، ودينه أعظم الأديان وأحسنها، وهذه الأمة عظيمة ما آمنت بربها، وتمسكت بكتابه، وأطاعت رسوله، واهتدت بهديه.
إن الإسلام الذي أرسل الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم - ليس فقط مجموعة إرشادات ومواعظ.
ولا مجموعة آداب وأخلاق.
ولا مجموعة شعائر وشرائع.
إنه يشتمل على هذا كله.
ولكن هذا كله ليس هو الإسلام.
إنما الإسلام هو الاستسلام لله، والاستعداد ابتداء لطاعة أمره ونهيه، واتباع المنهج الذي أنزله، دون الالتفات إلى أي توجيه آخر، ودون الاعتماد كذلك على أحد سواه.
وهو الشعور بأن البشر في هذه الأرض خاضعون للرب الواحد، الذي يصرفهم كما يصرف هذا الكون كله، كما يصرف العالم العلوي والسفلي وما بينهما من الكائنات والمخلوقات، ويدبر أمر الوجود كله ما خفي منه وما ظهر، وما غاب منه وما حضر، وما تدركه منه العقول وما لا تدركه.
وهو اليقين بأنهم ليس لهم من الأمر شيء إلا اتباع ما يأمرهم به الله، والانتهاء عما ينهاهم عنه، والأخذ بالأسباب التي يسرها لهم، وارتقاب النتائج التي يقدرها الله تعالى.
هذه هي القاعدة والأصل الذي يقوم عليه كل شيء.
ثم يأتي بعد ذلك العمل ممثلاً في الشعائر والشرائع.
والآداب والأخلاق.
والسنن والأحكام، بوصفها الترجمة العملية لمقتضيات العقيدة المستكنة في القلب، والآثار الواقعية لاستسلام النفس لله، والسير على منهجه في الحياة.
فالإسلام عقيدة، ينبثق منها شريعة، يقوم على هذه الشريعة نظام، فهذه الثلاثة مجتمعة هي الإسلام الذي أرسل الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم - إلى هذه الأمة.
ولتحقيق هذا الإسلام لا بدَّ من تقوى الله، فتقوى الله والشعور برقابته واستشعار جلاله هي القاعدة الأولى، وهي الحارس القائم في أعماق القلب على التشريع والتنفيذ.
وهي التي يناط بها كل تكليف في الإسلام وكل توجيه.
والتوجيه الثاني: النهي عن طاعة الكافرين والمنافقين، وعدم الاستماع إلى رأيهم، أو اتباع توجيههم كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (١)} [الأحزاب: ١].
وهذا الأمر.
وهذا النهي.
باق في كل بيئة.
وفي كل زمان.
وفي كل مكان.
فعلى المؤمنين أن يتقوا الله في كل حال، وعليهم أن يحذروا من اتباع آراء الكافرين والمنافقين إطلاقاً، سواء في أمر العقيدة، أو أمر التشريع، أو في منهج الحياة.
ليبقى منهجهم خالصاً لله، غير مشوب بتوجيه سواه.
لا ينخدع أحد بما عند الكافرين والمنافقين من ظاهر العلم والتجربة والخبرة كما يسوغ بعض المسلمين لأنفسهم في فترات الضعف والانحراف، فإن الله سبحانه هو العليم الحكيم، وهو الذي اختار للمؤمنين منهجهم وفق علمه وحكمته، وما عند البشر شيء، وليس بأيديهم شيء.
أما التوجيه الثالث المباشر فهو: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (٢)} [الأحزاب: ٢].
فهذه هي الجهة المأمونة التي تجيء منها التوجيهات، وهذا هو المصدر الجدير بالاتباع، فهو سبحانه العليم الذي يوحي عن خبرةٍ بكم وبما تعملون، وهو الذي يعلم حقيقة ما تعملون، ودوافعكم للعمل.
أما التوجيه الأخير فهو: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (٣)} [الأحزاب: ٣].
فلا يهمنك أكانوا معك أم عليك؟، ولا تحفل بكيدهم ومكرهم، وألق بأمرك كله إلى الله يصرفه بعلمه وقدرته كما يشاء.
مختارات