فقه الرحمة (٣)
فالرحمة من أسمى الفضائل الإنسانية:
تكون من الآباء للأبناء تقبيلاً، ومعانقة، وتأديباً، وإحساناً إليهم.
وتكون الرحمة من الأبناء للآباء والأمهات قولاً كريماً، وصنعاً جميلاً، وطاعة في غير معصية الله، وخدمة صادقة، ودعاء لهم بالخير، واستغفاراً لهم، ووفاء لديونهم، وإكراماً لأصدقائهم.
وتكون الرحمة بين الأقارب صلة ومواساة ومودة، وسعياً في مصلحة، ودفعاً لمضرة.
وتكون بين الزوجين معاشرة بالمعروف، وإحساناً وعفواً متبادلاً.
وتكون الرحمة بين أهل الدين الواحد إرشاداً إلى الخير، وتحذيراً من كل شر.
وتكون بين جميع الأفراد بأن يحب أحدهم للآخر ما يحبه لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، فيسعى إلى ما فيه منفعتهم، يواسي محتاجهم، ويداوي جريحهم، ويعود مريضهم، ويجبر كسيرهم، ولا يكلف أحداً بأمر عسير، ولا يحمله من الأمر ما لا يطيق.
وتكون الرحمة بالكفار والضالين بدعوتهم إلى الله، والإحسان إليهم، والدعاء لهم بالهداية، وإعطائهم من المال ما يفتح قلوبهم لفهم هذا الدين، والدخول فيه ونحو ذلك مما يؤلف قلوبهم.
والله تبارك وتعالى توَّج هذه الأمة بتاج الإيمان والأعمال الصالحة، والدعوة إلى الله، وكثير من الناس توَّج نفسه بتاج اليهود والنصارى، تاج الدنيا وجمع الحطام، والانهماك في الشهوات، وأعرض عن كثير من أوامر الله.
فما أجدر هؤلاء بالعقوبة إن لم يتوبوا كما قال سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (٦٠)} [مريم: ٥٩،٦٠].
ومن تمام رحمة الله بعباده أن أرسل إليهم رسله بما يسعدهم في الدنيا والآخرة.
فمن رسل الله من كلَّمه الله من وراء حجاب بلا واسطة كموسى - صلى الله عليه وسلم -.. ومنهم من كلمه الله على لسان رسوله الملكي جبريل وهم الأنبياء.. وكلم الله سائر الناس على ألسنة رسله، فأنزل عليهم كلامه الذي بلَّغته رسله عنه إليهم، وقالوا هذا كلام الله الذي تكلم به إلى عباده، وأمرنا بتبليغه إليكم كما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (٦٧) قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٦٨)} [المائدة: ٦٧،٦٨].
وكلام الله هدى ورحمة للبشرية فهل قمنا بإبلاغه إليهم؟: {هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (٥٢)} [إبراهيم: ٥٢].
وإذا أراد الله بأهل الأرض خيراً نثر عليهم أثراً من آثار اسمه الرحمن، فعمر به البلاد، وأحيا به الموات، وأصلح به العباد.
وإذا أريد بهم شراً أمسك عنهم أثر ذلك الاسم، فحل بهم من البلاء بحسب ما أمسك عنهم من آثار اسمه الرحمن.
ورحمة الله وسعت كل شيء، وقد خلق الله مائة رحمة، وأنزل على أهل الأرض رحمة واحدة منها، فبها يتراحم الخلق ويتعاطفون، فكل رحمة في كل مخلوق فهي من آثار رحمة الله هذه.
والعالم كله مملوء بهذه الرحمة الواحدة كامتلاء البحر بمائه، والجو بهوائه، وما فيه من ضد ذلك فهو من مقتضى سبقت رحمتي غضبي، والمسبوق لا بدَّ لاحق وإن أبطأ، وفيه حكمة لا تناقضها الرحمة، فإذا كان يوم القيامة كمل الله بهذه الرحمة لتكون مائة رحمة، يرحم بها أهل الإيمان به وطاعته وتوحيده.
وإذا كان الله قد ملأ هذا الكون برحمته.. فهلا نملؤه بدوام ذكره وحمده؟
فسبحان العزيز الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء، وأحاط علمه بكل شيء.
مختارات