"طاعة الوقت" سبيل الثبات
قال الله تعالى:
﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا﴾ [النساء: 66]
في هذه الآية تأصيل عميق لمبدأ شرعي بالغ الأهمية، يكاد يكون اليوم في طيّ الإهمال أو النسيان، وهو الانشغال بما يُطلب من الإنسان في زمانه ومقامه، أو ما يمكن تسميته بـ”عبادة الوقت”، وهي الطاعة التي يُفترض أن يشتغل بها العبد في لحظته الراهنة، وفق حاله وظرفه وموقعه، دون أن يتشاغل عنها بغيرها مهما بدا لامعًا أو مشوقًا أو صاخبًا.
فطاعة الوقت هي العمل الذي يطالبك به الشرع في لحظتك، وفق قدرتك، ومقامك، وحاجات الواقع من حولك. قد تكون تضرعاً وإلحاحاً في الدعاء،أو طلب علم، أو جهادًا، أو صمتًا، أو إصلاحًا بين الناس، أو صبرًا، أو نصيحةً، أو صدقة، أو تعليمًا، أو اجتنابًا للفتنة. إنها ترجمة عملية لفقه “مراتب الأعمال”، حيث لا تستوي الطاعات في الفضل دائمًا، بل تتغير أولويتها حسب الحال والزمان والمكان والشخص.
وقد كان السلف يوصون بـ”فقه الأولويات” و”معرفة حق الله في الوقت”، فرب عبادة تصبح أثقل وأعظم أجرًا لأنها طاعة الوقت، ورب عمل يُمدح في حال ويُذم في آخر لأنه ليس من طاعة الوقت، بل صار مرجوحاً.
من أبرز أسباب فقدان الثبات اليوم هو الانفصال عن طاعة الوقت والانشغال بسواها، حتى وإن كانت في ذاتها طاعة أو خيرًا. كثيرون يقضون الساعات في تتبع الأخبار، والخوض في القضايا العامة، والجدال حول الفتن، بينما الواجب عليهم قد يكون عبادة خاصة، أو صمتًا وتزكية، أو طلب علم، أو إعانة أهلهم، أو حتى إمساكًا عن الفتنة.
فالذي يُؤمر بالإصلاح ينشغل بالتحليل السياسي، والذي يُطلب منه العلم ينصرف إلى الترف الفكري، والذي يُنتظر منه الحضور في ميدان الصدق والمجاهدة يتقاعس، ويحلّق في أمنيات خيال لا وزن لها. وبهذا يضيع الوقت، وتتمزق النفس، وتضعف العزيمة، ويقع الانهيار الخفي للنية والهدف.
إنَّ طاعة الوقت تتغير باختلاف المقامات
• القائد العسكري طاعته أن يُحسن التخطيط والتنفيذ، ويحفظ جنوده، ويُعدّ للأمر عدّته.
• الجندي المجاهد طاعته في الميدان، في الثبات والصبر والطاعة والانضباط.
• العالم المفتي طاعته في تبيين الحق بلا مواربة، وهداية الناس، وتحذيرهم من الغلو والتفريط.
• الإعلامي طاعته في نقل الحقائق، وعدم تهوين المنكرات، والصدق في الكلمة، وعدم التحريض على الباطل.
• السياسي المفاوض طاعته في حفظ مصالح المسلمين، والموازنة بين الممكن والمأمول، ودرء المفاسد.
• العامي طاعته في لزوم العبادة، وترك الفتنة، والصدق في القوت، والوفاء بحقوق من يعول.
كلٌّ عليه عبء، وكلٌّ على ثغر، وإذا شغل المرء نفسه بغير ثغره ضيّع ما عليه، وفتن نفسه، وأضعف غيره.
الآية الكريمة فرّقت بين من يسمع الموعظة ويعمل بها، ومن يكتفي بالانفعال والتصريح والدعوى ( الادعاء ). قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا﴾، ولم يقل “قالوا” أو “تأثروا”، فالميزان هو الفعل، لا الانطباع ولا الكلام.
وقد بلي كثير من الناس اليوم بعالم افتراضي، يتوهمون الثبات في تغريدة، أو نصرة الدين في تعليق، بينما تظل بيوتهم خاوية من الذكر، وقلوبهم هشة، وأوقاتهم مهدرة، وطاعة وقتهم مهجورة.
من أهم أسباب النجاة في الفتن معرفة طاعة الوقت، والحفاظ عليها وقد أرشدنا النبي ﷺ إلى ذلك في قوله: "فمن كانت له إبل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فليلحق بغنمه”
وهو توجيه واضح بأن الفتن تستدعي أحيانًا الانكفاء والانشغال بما ينفع الإنسان، لا الغرق في صخبها.
الثبات ليس في مواكبة كل فتنة، بل في تجديد النية، والصدق في العمل، ولزوم الثغر، وإنكار المنكر على قدر الطاقة، من غير تهور طائش ولا انخداع بالشعارات الزائفة.
ومما يعين على معرفة وضبط " طاعة الوقت "
1. السؤال بصدق: ماذا يطلب الله مني الآن؟
ليس ما أهوى ولكن ما يلزمني شرعاً
2. استشارة أهل العلم والبصيرة.
فقد تُفتن النفس بما يبدو خيرًا وهو من الهوى.
3. عدم الانشغال بالأحداث ما لم تكن في محل مسؤوليتك.أنت لست مسؤولًا عن كل شيء، لكنك مسؤول عن طاعتك.
4. تحديد موقعك في الأمة: طالب علم؟ رب أسرة؟ داعية؟ عامل؟ومن هنا تظهر الأولويات.
5. مراجعة النفس كل يوم:
هل أديت حق الله في يومك؟ هل صرفت وقتك في طاعة تليق بمقامك؟
إن أعظم ما يعين على الثبات هو أن تكون في الموضع الذي يُراد منك أن تكون فيه.
ليس المهم أن تكون في كل مكان، ولا أن تقول في كل قضية، بل أن تكون في موقعك الصحيح، تؤدي طاعة وقتك، وتترك ما لا يعنيك، وتنشغل بالفرض القائم لا بالأمنيات الزائفة.
فمن فعل ما وُعظ به، لا ما تمنى أو ادّعى، ثبتت قدمه، وسلِمت نفسه، وربح الدنيا والآخرة بإذن الله
{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا}
مختارات