{أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات}
في زماننا الذي اختلطت فيه المعايير، وتبدّلت فيه القيم فطغت المادة وتآكلت الروح، لا تزال كلمات القرآن تسطع في ضمائر غشتها ظُلمة الهوى، وتوقظ أرواحاً مزقتها شهوات الفساد والخنا... تأتي الآية الكريمة من سورة مريم:
> {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا}
كالبرهان الساطع الذي يكشف عن سرّ الانحدار وسوء المصير، ويشير بأصبع الحقيقة إلى أصل الداء ومصدر البلاء: إضاعة الصلاة، واتباع الشهوات.
فإضاعة الصلاة… هدم لعمود الدين، فإن
الصلاة ليست مجرّد عبادة وقتية، بل هي الركن الأعظم بعد الشهادتين، وهي الحبل الواصل بين العبد وربه، وهي الميزان الأول لصدق الإيمان؛ فمن ضيّع الصلاة فقد ضيّع الدين كله، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
> لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.
وإضاعة الصلاة مراتب، كلها مذمومة وعواقبها وخيمة، وإن تفاوتت في خطرها:
❌ • من تركها جحودًا فقد كفر.
❌ • ومن تركها تكاسلًا فهو على شفا هَلَكَة، وقد قال النبي ﷺ:
“العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر.”
❌ • ومن أخّرها عن وقتها، أو فرّط في شروطها وأركانها وخشوعها، فقد دخل في حيّز الإضاعة المذمومة.
إن الصلاة هي القلعة التي تحمي القلب من الشهوات، فإذا انهدمت القلعة، دخل العدو.
و أما اتباع الشهوات… فهو القيد الذي يجرّ إلى الغيّ
جاء التعبير القرآني بلفظ “اتبعوا الشهوات”، ولم يقل “وقعوا في الشهوات”، للدلالة على الاستسلام الكامل والانقياد الأعمى، كأن الشهوة صارت قائدًا يجرّ الإنسان من عنقه حيث شاء، لا عقل يردعه، ولا إيمان يمنعه.
والشهوات على قسمين:
• شهوات فطرية، جعل الله لها سُبلًا مشروعة، كالجنس عبر الزواج، والطعام والشراب بغير إسراف.
• وشهوات منحرفة، نتجت عن انتكاس الفطرة، مثل الشذوذ، وإدمان المخدرات والمسكرات والتدخين، والتبرج، والاستعراض الجنسي، والتي صارت تُروَّج وتُشرَّع تحت ستار “الحرية”.
ليس من المصادفة أن ترد “إضاعة الصلاة” و ”اتباع الشهوات” في نسق واحد، لأن بينهما ارتباطاً قويًا:
فمن ضيّع الصلاة سقط في الشهوات، ومن غرق في الشهوات ضيع الصلاة.
إنها علاقة تبادلية تفضي في النهاية إلى الهلاك الروحي والفساد الخُلقي، ومن ثم “الغيّ”.
فالغي هو النتيجة الحتمية …قال المفسرون إن الغيّ هو:
• وادي في جهنم، بعيد قعره شديدٌ حره خبيثٌ طعمه
• وقيل: الضلال والهلاك.
• وقيل: هو فساد في الدنيا، ونكال في الآخرة.
وأيًّا كان معناه، فإنه عاقبة مخيفة توعد الله بها من جمع بين تضييع الصلاة واتباع الشهوات. وهو مصير عادل لمن اختار الانفلات من ربقة العبودية إلى أَسْر الهوى.
ومع قليل من النظر نجد أن الوصف الإلهي ينطبق تمامًا على واقع الحضارة الغربية المعاصرة:
• فصلت الدين عن الحياة، فأضاعت العبادات.
• وقدّست الشهوات، وشرّعت الفواحش، وسوّقت الفساد تحت شعارات الحرية.
والأدهى والأمرّ أن كثيرًا من أبناء أمة الإسلام لحِقوا بهذا الركب المنكوس، فبدلاً أن يكونوا شهداء على الناس، صاروا مقلّدين لمن ضلّ عن سواء السبيل.
ومع كل هذا الوعيد، لم تُغلق أبواب الرحمة، بل فتح الله طريقًا واحدًا للخلاص..
{إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}، فهؤلاء هم الذين يدخلون الجنة “وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا”.
وليس في هذا الطريق اختيار ولا بديل، إنه السبيل الإجباري لمن أراد النجاة.
فالنجاة ليست مستحيلة، بل ممكنة، والطريق واضح:
1. توبة صادقة تتمثل في ندم حقيقي، وقطع صريح مع الماضي الفاسد وعزم صادق على عدم الرجوع لما سلف من التفريط والضياع
2. إيمان متجدد من قلب ينبض باليقين، وعقل يتبصر بالحق ونفسٍ مطمئنة تأنس بمعرفة ربها والإقبال عليه
3. عمل صالح بمثابة ترجمة صادقة للتوبة، وتزكية واقعية للنفس فتثمر رعاية ومحافظة على الطاعات وعزوفاً وتركاً للشهوات
ومن جمع هذه الثلاث، بدّل الله سيئاته حسنات، ورفعه إلى مراتب الفائزين
الآية الكريمة ليست وصفًا لماضٍ انقضى، بل تحذير حيّ لمجتمعنا اليوم، ونذير لكل من أهمل الصلاة، وتهاون في العفة، وتراخى في حراسة قلبه من الهوى. وبيان ظاهر أن سقوط الأمم لا يبدأ بالهزيمة العسكرية ولا بالتخلف الاقتصادي، وإنما من الخلل في صلة العبد بربه، وانفلات النفس من عقال الشرع.
إن العودة إلى الله لا تكون إلا بإقامة الصلاة في وقتها، بخشوعها، وبكامل أركانها وكذا سائر العبادات والطاعات، مع تربية النفس على ضبط الشهوات، وتعظيم حدود الله.
مختارات